أحلام عراقية بوطن يشبه الناس

TT

لم يعد من مهمات الشعب العراقي مزاولة الجدل الروماني بشأن الاحتلال أو التحرير، أو كيفية التعامل مع قوات التحالف الأجنبية التي أصبحت أمرا واقعا بالضد من، أو بالتوافق مع، رغبات هذا التيار أو ذاك الحزب أو تلك الطائفة.

فتشكيل قوات الشرطة العراقية، مثلا، لا يمكن أن يتم من دون قرار وإشراف وتنفيذ أمريكي، خصوصا أن تشكيل هذه القوات وتدريبها ودعمها هو الاستجابة الفورية والصحيحة لأول مطلب عراقي ملح: توفير الأمن.

الأحزاب والفعاليات العراقية، داخل العراق وخارجه، مجتمعة لم تستطع إسقاط الدكتاتورية الصدامية، ولم تنجح في منع الحرب ولا تستطيع إخراج قوات التحالف الأجنبية بعد أن قدمت أكبر خدمة للعراق والعراقيين (بالرغم من الأجندة الخاصة بهذه القوات)، فما عليها إلا أن تتعامل بمنطق المواطن العراقي البسيط الباحث عن أمن وعمل، والذي لم يجد غير مقر قوات التحالف للتظاهر أو لتقديم طلباته مكتوبة والانخراط في المؤسسات المحلية المتاحة لتأمين لقمة خبزه وحبة دوائه وأمنه.

لكن ليس الغذاء والدواء والأمن هي أحلامنا العراقية المجهضة منذ انقلابات عديدة، فالغذاء والدواء والأمن متوفرة لغالبية حيوانات العالم المتمدن، منذ سنوات سحيقة، حتى تلك الحيوانات الهائمة في البراري الفسيحة. طموحاتنا أكبر بكثير من تلبية حاجيات الحيوان، إنها بحجم تلك الماكنة الحديدية الرهيبة، ماكنة القمع، التي كانت أول ما يفكر الحاكم في ابتكاره وتطويره حتى قبل أن يتسلم السلطة، وبسعة الهوة الدامية التي تمتد بين الحاكم والمحكوم منذ تأسيس العراق الحديث.

لكنها ليست أحلام مستحيلة ولم تكن يوما نوعا من ترف بلا مستلزمات، وعند إدراك هذه الحقيقة البسيطة تكون القوى والأحزاب الوطنية العراقية قد شرعت في تحمل مسؤولياتها والبدء بخلق أرضية التوافق العراقي حول طبيعة وأهداف وسبل تحقيق استقلال العراق الحقيقي، بأيدي أبنائه المخلصين، الأمر الذي سيجبر أقوى قوى العالم المدجج، على احترام الإرادة العراقية، بل حساب حسابها، وهنا فقط يمكن الحديث والحوار حول توقيت رحيل قوات الاحتلال الأجنبية من بلادنا.

إن مجتمعا سياسيا هشا تتجاذبه أحزاب وحركات متنازعة لا تثق ببعضها بعضا، وتنوء بتركة الأمراض النفسية التي ولدتها الدكتاتورية المقبورة، وتحكمها ثقافة الحصص والحقائب والنسب الطائفية والقومية، لا يمكن له أن يكون قادرا على ممارسة حياته الطبيعية في بلد لا تقوده حكومة وطنية منتخبة تحظى بثقة الشعب، أولا، قبل ثقة المحتلين.

الاحتلال أي احتلال، تاريخيا، ظاهرة شاذة، فلم ينعم أي شعب في العالم بحياة طبيعية تحت سلطة احتلال مهما كان رحيما، أو ادعى الرحمة، والأمر مرهون مرة أخرى، بنا، نحن العراقيين، وبمدى تمتعنا بوعي وطني كاف لإدراك مستلزمات حياتنا الوطنية، وتشبثنا بحقيقتنا العراقية وجوهرها الحضاري، وتمسكنا بالحد الأدنى من ضرورة التعايش الاجتماعي مع بعضنا، انطلاقا من من أن الوطن ليس لفظا سياسيا مجردا نلقنه تقليديا لأطفالنا، كما لقنه لنا آباؤنا ومعلمونا الأبرياء، وشعورا هيوليا بالانتماء الى أرض وخيرات ومنافع، فهذه يمكن أن تتوفر في أي بقعة في العالم، ولكن الوطن بنية حضارية واقعية تحتاج وعيا اجتماعيا خاصا بأهمية الارتباط الحقيقي المكفول بمسؤولية عالية تبدأ بنظافة الزقاق ولا تنتهي عند انتخاب أعضاء الحكومة ومجلس البرلمان.

الوطن جملة من المرتكزات الحيوية الضرورية المتلازمة، وإن عملت بشكل لا مركزي وحر، يمكن تلخيصها بمفردات أساسية تنبثق من منظومة ثقافية عريضة التنوع تستبعد ضيق الأفق والعشائرية والولاء الحزبي والطائفي والمناطقي، وبجملة ثقافة وطنية منزهة عن تكتيك السياسي المحض، منطلقة الى أفق وطني عريض يحترم المواطن أيا كان حجمه وتحدره وتطلعه قبل الوطن، أيا كان تعريفه وسطوته العاطفية والرومانسية، فما نفع الوطن بلا مواطن؟

الوطن، استطرادا، حمية شخصية تتجلى بالنزوع الذاتي نحو احترام الإنسان وحقوقه ومقتضيات وجوده وضمان أساسيات حياته اليومية واللاحقة والمضمونة شرعا ودستورا وأخلاقا.

ليس لنا أن نقلب الوطن، ظهرا لبطن، لنحوله الى كيان جديد خلال أشهر، أو حتى سنوات، رغم أهمية العمل الحثيث لوضع الأسس الأولية المطلوبة، إنما هي مسألة تخص أبناءنا وأحفادنا القادمين الذين سيتذكروننا بشيء من الامتنان، على الأقل، بذاكرة تخلو من ترسانة الأسلحة الكيماوية والحروب مع الجيران والمقابر الجماعية، وترك هذه المحطات في الظلمة لتنيرها مصابيح المتحف فقط، لكي لا تنغص عليهم ليل حياتهم المنشودة المفعمة بالحب والحرية والعمل والعلم والإبداع.

صحيح ان تاريخا من الجريمة والحقد والثأر يثقل على حياة الأحياء منا، لأجيال متعددة، لكن مسؤوليتنا، نحن الذين تحملنا قسطا من صناعة الدكتاتورية، أو التمهيد لها، أو التقاعس عن مقاومتها، أو عدم العمل بكامل طاقتنا لمنع نجاحها وتسميم حياة شعبنا طيلة حوالي نصف القرن من الانقلاب والانقلاب المضاد، وأنا أقول هذا، مع سبق الإصرار والترصد، لكي لا تأخذنا خفة المعجب بنفسه فنبدو في مرايانا الصقيلة كأنبياء صغار لم نُطع في أوطاننا، ذلك أن الحياة السياسية في العراق، الى جانب ما يتحمله الطغاة الحاكمون من مسؤولية مباشرة في إغراق البلد بالدم والرماد والحداد الصامت، لم تكن مسؤوليتنا بمنأى عن أخطاء وخطايا الأحزاب المناضلة وزعمائها وكوادرها الأعلى والأوسط، وحتى أعضائها ومؤازريها، تلك الأخطاء المتبادلة الخاصة بالقمع الداخلي للرأي المخالف، وضراوة النظام الداخلي المصنوع بعقلية المنظم الستاليني، أو الحوزوي المتطرف، أو القومي الناصري (ألا يلاحظ القارئ خلو حياتنا الحزبية من تنظيم ديمقراطي أو ليبرالي حقيقي؟) وتدرجاتهم، من دون أن ننسى الكردي الماوي أو الكردي القوموي العشائري وما بينهما أو ما ينتج عن دمجهما أو انشقاقهما.

إذا كانت الحياة السياسية، في أي بلد، هي نتاج صراعه وطموحاته وثقافته الوطنية والطبقية، فلماذا لم تنتج هذه الحياة غير هذه الهيكلية الحزبية المتداولة منذ تأسيس العراق الحديث وحتى اليوم؟

ثم أليس من اللافت للنظر أن تتوالد الأحزاب العراقية لينسخ كل منهما تجربة الآخر، خصوصا فيما يتعلق بالبنية الداخلية والسلوك وأسلوب التعاطي مع الذات والآخر؟

ثمة تشابهات أساسية، بين الأحزاب، في طرق التنظيم وأساليب الحياة والنظم الداخلية ونظرة الشك والتخوين والاتهام بالعمالة من جهة، وطريقة التصرف بأموال الحزب ومنح المكافآت والامتيازات، حيثما توفرت، وتقريب العنصر حسب ولائه العقيدي وربما الشخصي (للزعيم، المسؤول، الكادر المتقدم) وتجاهل الفرد المجرد من الحماية المناطقية أو الأفضلية الطائفية أو الولائية الشخصية.

بل ثمة التشابه النظري، حتى، بشأن المرجعيات الإقليمية أو القومية أو الأممية، ولا تبقى سوى التمايزات الشكلية الضرورية، وقد تتقاطع بشكل حاد كتناقضات أساسية، لكنها بالنتيجة تلتقي عند تجاهل دور الفرد الإنساني، والنظرة الى الثقافة كتنوع بشري وتقديس الشهيد على حساب الحي (رغم أنه مشروع شهيد).

إن الأحزاب الوطنية العراقية مدعوة لمراجعة نفسها وإعادة قراءة نظمها وبرامجها ولغتها، بعيدا عن التحجج بحالة الطوارئ و«شدة القمع الذي يتعرض له حزبنا الذي عقد مؤتمره العتيد وسط ظروف أمنية وسياسية بالغة التعقيد».

بعد أن عملت الدكتاتورية على تشكيل الناس وفق صورتها، نجحت هنا وأخفقت هناك، نريد وطنا يشبه الناس في بساطتهم وأحلامهم الصغيرة في أن يروا في الصباح أطفالهم يذهبون بأمان الى المدرسة، وموزع البريد وحافلة نقل الركاب، وليس زوار الفجر أو أعضاء الحزب المدججين بالكراهية وهم يجوبون الشوارع ويتناولون طعامهم وشرابهم ثم يخرجون من دون أن يدفعوا الحساب.