خريطة الطريق ضلت الطريق

TT

يسود القلق في الشرق الأوسط بعد ان ظهر في الأفق السياسي العالمي، انهيار كل الآمال في الصلح الفلسطيني الاسرائيلي، ويرجع العرب ذلك الانهيار الى التوقعات العريضة الدولية في المستقبل بينهما، دون ان ترتكز تلك الآمال على الواقع الفعلي القائم فوق الارض ورفض التعامل معه، ولبعدها عن المنطق الانساني السليم وما يفرضه من سيادة القانون على الطرفين المتصارعين بالسلاح، وتجاهلها للعدالة التي تنصر تحت ظلالها الحق على الباطل.

وقوع الكارثة على هذه الدعائم الثلاث: تجاهل الواقع، وتعطيل القانون، وتغييب العدالة، مما يزيد من تأثيراتها على المستقبل بمواصلة القتال الذي تتعذر معه العودة الى التفاوض السلمي، يثبت ذلك رفض اسرائيل هدنة جديدة ومطالبتها بحل الفصائل المسلحة واعلانها ان عرفات وياسين ونصر الله مطلوب اغتيالهم مع 34 شخصا آخرين لتحقق لنفسها الامن الذي تسعى اليه، وقابل ذلك اعلان كتائب الاقصى تشكيل مجموعة فدائية تكون مهمتها ملاحقة شارون وموفاز وموشيه لاغتيالهم لترهب بعد اغتيالهم القيادة الاسرائيلية حتى توقف عدوانها على الانسان والارض الفلسطينيين.

واضح ان اسرائيل تريد من مطالبتها بحل الفصائل الفلسطينية المكافحة ضدها ايقاع الفلسطينيين في فخ الصراع بين حكومة محمود عباس «ابو مازن» الذي تقع عليه مسؤولية تجريد هذه الفصائل من سلاحها وبين المقاومة الفلسطينية التي ترفض تجريدها من سلاحها، وتأمل اسرائيل من هذا التناقض بين الفريقين الفلسطينيين اندلاع حرب اهلية فلسطينية تؤدي في نتائجها الى الابتعاد عن ضرب اسرائيل لانشغالها في الحرب الدائرة مع نفسها، وفي نفس الوقت تستغل اسرائيل ظروف الحرب الاهلية الفلسطينية بفرض سيادتها على كل الاراضي الفلسطينية المحتلة وتبرر ذلك امام الاسرة الدولية بحماية نفسها من اخطار الحرب الاهلية الفلسطينية.

ادركت فصائل المقاومة الفلسطينية ابعاد اللعبة الاسرائيلية، واعلنت حماس باسمها ان الكفاح الوطني الفلسطيني لن يتورط في حرب اهلية، ولن يقبل بهدنة جديدة وسيواصل كفاحه الوطني ضد اسرائيل لتدفع حكومة اريل شارون ثمنا باهظا على عدوانها المستمر على الفلسطينيين بعد ان ثبت عدم جديتها في كل المفاوضات السلمية للصلح واقامة الوطن الفلسطيني تحت مظلة دولة خاصة بهم حدد موعد قيامها في عام 2005، وتدل كل الاحداث الدائرة في داخل الاقليم، وفوق المسرح الدولي ان الوعد بالدولة الفلسطينية من قبل امريكا لا يزيد عن وعد عرقوبي، بدليل ان واشنطن اخذت تهدد الفلسطينيين بالتخلي عن التزاماتها في اقامة الدولة الفلسطينية لكسرهم الهدنة التي التزموا بها وخروجهم الى القتال بالهجمات على اسرائيل.

تثبت استحالة العودة الى المفاوضات السلمية الفلسطينية الاسرائيلية مواقف ثلاثة، الموقف الاسرائيلي الذي يرفض السلام ويعلن عن رغبته فيه، والموقف الامريكي الذي يدعي مساعيه السلمية ويساند العدوان الاسرائيلي، والموقف الفلسطيني الذي قبل بالهدنة من طرف واحد ليصل الى السلام وفرض عليه القتال بالعدوان عليه، والتغلب على هذه المعادلة ثلاثية الاضلاع، اسرائيلي يعتدي، وامريكي يكذب، وفلسطيني يكافح يحتاج الى اعادة ترتيب الاولويات بالتعامل الصحيح مع الواقع تحت المظلة القانونية التي تستهدف تحقيق العدالة.

الواقع القائم الذي يجب التعامل معه ان هناك اراضي فلسطينية تحتلها اسرائيل منذ 36 سنة، من عام 1967 الى عام 2003، وهو مسلك يخالف احكام القانون الدولي العام التي تحرم بصورة قاطعة الاحتلال في كل صوره واشكاله مما يفرض اتجاه الارادة الدولية الى حتمية جلاء اسرائيل من هذه الاراضي التي تحتلها، وبدون هذا الجلاء تتعثر المفاوضات السلمية وتفرض المواجهة القتالية بسبب مخاطبة اسرائيل الفلسطينيين من عليين باعتبارها المسيطرة على الارض، تارة تتفق على اعادتها لهم، وتارة اخرى تساوم على اعادة بعضها والاحتفاظ بالبعض الآخر، ولا تنفذ لا هذا ولا ذاك، لتصعد تارة ثالثة ادعاءها بامتلاك الاراضي بعد تحريرها من خلال حرب خاضتها في يوم 5 يونيه عام 1967، ومن الطبيعي ان يكافح الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير اراضيه من الاستعمار الاسرائيلي الاستيطاني الأكثر تحريما من وجهة النظر القانونية، ويثبت انعدام رغبة تل ابيب في الجلاء من الاراضي الفلسطينية التي تحتلها.. والوساطة الامريكية لم تراع هذا الواقع القائم بانحرافها عنه بفرض هدنة الطرف الواحد، التي يسميها فقهاء القانون الدولي العام «هدنة السمعة السيئة» لمخالفتها اولا لأحكام القانون الدولي العام، وكل السوابق التاريخية التي تجعل الهدنة ملزمة للطرفين المتقاتلين بوقف اطلاق النار، وتعديها ثانيا على صاحب الحق بمنعه من استخدام السلاح في الكفاح، واعطاء المعتدي على الارض حق الدفاع عن النفس، الذي يعني هنا الدفاع عن عدوانه الذي يجسده احتلاله لاراضي الغير.

يظهر تعطيل المظلة القانونية من خريطة الطريق التي ضلت الطريق، ليس فقط بالخروج على نصها الذي وضعته اللجنة الرباعية الدولية، ومناقشة التحفظات الاسرائيلية عليها في قمة مؤتمر العقبة، استجابة لرغبة اريل شارون الذي استطاع ان يجعل منها خطة اسرائيلية وليست خريطة طريق دولية، وانما ايضا بانسياق امريكا وراء رغبة اسرائيل بحرمان الامم المتحدة، ودول الوحدة الاوربية، والاتحاد الروسي، من الاشراف على تنفيذ خريطة الطريق باعتبارهم شركاء لامريكا في وضعها وصياغتها، التي انفردت وحدها بهذا الاشراف على تطبيقها فكبلت يد الفلسطينيين بالقيود، واطلقت يد اسرائيل لتفعل ما تريد وترتب على ذلك التزام فلسطيني بها وتمرد اسرائيلي عليها، فكان هذا الانحراف عن خريطة الطريق سببا من اسباب وقف المفاوضات والعودة الى حمل السلاح من قبل الفلسطينيين لمواجهة السلاح الاسرائيلي المصوب اليهم.

تغييب العدالة كان ولا يزال هدفا اسرائيليا مدعوما بالادوار الامريكية التي ضغطت على صاحب الحق الفلسطيني ليتنازل عن كثير من حقوقه، للمعتدي عليها الاسرائيلي ويتضح هذا التنازل باحجامه المختلفة في كل المفاوضات السلمية الفلسطينية العلنية منها والسرية عبر المرحلة الزمنية الممتدة من 12 سنة ماضية، بدأت من بعد اللقاء العربي العام مع اسرائيل في مؤتمر مدريد عام 1991 الى لقاء القمة الثلاثي الفلسطيني الامريكي الاسرائيلي الذي عقد بمدينة العقبة الاردنية في عامنا الحالي 2003، ولا يخفى ان غياب العدالة في التعامل يفرض الظلم ويدفع المغبون الى الدفاع عن حقه بكل الوسائل بما فيها اللجوء الى استخدام السلاح، وهو مبدأ تقره احكام القانون الدولي العام.

ان الصراع المسلح الدائر اليوم بين الفلسطينيين والاسرائيليين له طريقان للحل، إما التعامل مع الواقع واللجوء الى القانون والتمسك بالعدالة، وإما الاستمرار في القتال بكل الاوراق السياسية والاقتصادية المترتبة عليه، ويبدو ان موقف اسرائيل سيفرض غياب العقل واستخدام القوة.