إشكالية تواجه الجامعة العربية

TT

يخضع التدبير السياسي سواء منه الداخلي او الخارجي، اي ما يتصل بالدولة الوطنية او ما يخص العلاقات الدولية لمقتضيات وقواعد احدى المدارس السياسية الثلاث: المدرسة المثالية التي تختار بالاسبقية الاعتماد في التدبير على المبادئ والاخلاق والمثل الفاضلة، والمدرسة الواقعية التي تتعامل مع الاحداث السياسية وتُصرِّف علاقاتها الخارجية بنظرة براغماتية تعطي الاسبقية للتعامل مع الواقع المجرد، بصرف النظر عما اذا كان تعاملها معه يجاري المبادئ أو يتنافى معها. وهي لا تعادي في تعاملها مع الواقع المبادئ والمثل الخيرة، لكن لا تستحضرها في الذاكرة اساسا وشرطا في عملها. واخيرا المدرسة الانتهازية التي لا تستبعد اي اسلوب لتحقيق اهدافها، بما فيها الاعتماد على المبدأ المكيافيلي اللاأخلاقي القائل: «الغاية تبرر الوسيلة»، والمقولة الاخرى القائلة: «لا أخلاق ولا مبادئ في السياسة».

ويتفرع عن هذه المدارس توجهات من بينها التركيز على ان السياسة لم تعد معنية بالالتزام بالمبادئ، بل تحقيق المصالح. وحسب هذه المدرسة فان تحقيق المصالح يشبه او يوازي اكتساب المال وهو لا طعم ولا لون ولا رائحة له، وانما لونه لون آنيته، وكذلك المصالح تتشكل في شكل طيف ذي الوان قوس قُزَحية، ويختلف مذاقها وطعمها، وتتعدد وسائل التوصل الى تحقيقها باختلاف الظرف والمكان والسياق، وحتى شخص الساعي الى تحقيق المصلحة، او الدولة التي تسخر قواتها وتستقطب طاقاتها لتحقيق المصلحة.

ارتأيت بأن امهد بهذه الفذلكة للحديث عن موضوع التعامل مع وضع العراق الذي اصبح اشكالية مطروحة على دول الجامعة العربية، وبعض دول الاتحاد الاوروبي التي عارضت غزو العراق كفرنسا والمانيا ووقفت ضد احتلاله من لدن الولايات المتحدة. كما شغلت الاشكالية بصفة خاصة الفكر السياسي العربي الذي انقسم بين من ينصح بالاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي، وبين من يدعو الى عدم التعامل معه لانه لا شرعية له مستمدةً من الشعب العراقي، وينصح الجامعة العربية بتجاهل وجوده، وابقاء مقعد العراق في الجامعة فارغا الى ان يستتب الامر بالعراق لحكم شرعي ومشروع، متى وكيف؟ لا احد يدري.

والاشكالية الصعبة تطرح في الحقيقة قضية اختلاف الاجتهادات بين المدرستين الواقعية والمثالية. وانصار هذه الاخيرة هم الذين يطرحون الإشكال القانوني الاخلاقي لتبرير رفض الاعتراف بالمجلس الذي يعتبرونه غير شرعي ولا قانوني، بل يدفعهم التعلق بالمبادئ والمثل الى نعته بلاًّاخلاقي لانه تناسل من رحم الاحتلال الذي لا يملك لا قانونيا ولا اخلاقيا اعطاء الشرعية لمولود من زواج غير شرعي. وهو ما لا تستحضره ذاكرة المدرسة الواقعية التي تنصح بالاعتراف بالامر الواقع الذي ليس له من دافع، وتفضل ان تسارع الجامعة العربية الى الاعتراف به والتعاون معه لتدشن بذلك تحول تدبيرها السياسي الى فعل ايجابي نافذ الاستحقاق في الوقت المناسب، وتقطع بذلك الصلة مع ماضيها الذي تميز بظاهرة اتخاذها القرارت المتأخرة عن مواعيدها، والتي تشكل من مجموعها ما يؤكد ان جامعتنا العربية لا تتخذ قرارات الفعل، وانما قرارات رد الفعل بعد فوات الاوان، هذا ان لم تعجز حتى عن اتخاذ اي قرار.

وقد اعلنت مصادر الاعلام في اعقاب اجتماع لجنة المتابعة العربية الاخير بمقر الامانة العامة بالقاهرة انه كان من بين ما تدارسته هذه اللجنة هو علاقة الجامعة بمجلس الحكم الانتقالي بالعراق، وان الرأي استقر على اعتبار الجامعة هذا المجلس خطوة على طريق اعادة بناء العراق سياسيا، والتعامل مع اعضائه بصفاتهم الشخصية افرادا لا يشكلون مؤسسة يمكن او لا يجوز الاعتراف بها. وفي رواية اخرى نقلتها بعض مصادر الاعلام جاء ان اللجنة اوصت (بل بعضها نسبت الى اللجنة انها قررت) بالوقوف عند هذا الحد في التعامل مع المجلس.

مبدئيا لا اعتقد ان تكون لجنة المتابعة قد تجاوزت اختصاصاتها كلجنة مختصة بالمتابعة (AD HOC)، اي مؤقتة للقيام بصلاحيات محدودة، وانها اتخذت القرار الذي لا يملك اتخاذه الا مجلس وزراء خارجية دول الجامعة العربية. وافهم ان تكون اللجنة انما اوصت امانة الجامعة العربية بالتريث الى حين انعقاد المجلس الوزاري الذي أُعلن انه سيجتمع بالامانة العامة في 29 من هذا الشهر (غشت / آب).

فكَّ مجلس الامن عقدة هذه الاشكالية باتخاذه يوم 14 غشت الجاري القرار 1500 الذي قدمته اليه الولايات المتحدة في شكل مشروع. وكان قيل عنه انه كان يقتصر في صيغته الاولى على عبارة ان «المجلس يأخذ علما بقيام مجلس الحكم الانتقالي بالعراق» ثم بعد اتصالات قامت الولايات المتحدة بها في الكواليس مع اعضاء المجلس استُبدِل بهذه العبارة صيغة «ان المجلس يرحب بقيام مجلس الحكم». وتعبير الترحيب ذو دلالة أدبية (أو تأدبية) لا تحتضن أي مضمون قانوني ولا ترقى الى الاعتراف بشرعية المجلس. لكنه اقوى دلالة من عبارة: «يأخذ علما». وقد ظفر القرار بالاجماع على هذه الصيغة باستنثاء صوت سوريا التي امتنعت عن التصويت.

وإثر اتخاذ القرار سارعت ثلاث دول عربية خليجية الى الاعلان عن الترحيب بالمجلس. وهو ما يعني ان موضوع الاعتراف يشكل شرخا سياسيا في صف الجامعة. وعسى ان يتوصل مجلس الوزراء هذا الاسبوع الى فك هذه الاشكالية بالاجماع على قرار موحد.

لا يمكن ان تبقى الجامعة العربية بعيدة عما يجري في العراق من تطورات، ولا ان يبقى مقعد العراق فيها شاغرا بينما هي مطوقة بمسؤوليات لا مندوحة لها عن تحملها لاخراج العراق من محنته. والسياسة الواقعية تفرض عليها الحضور والمساهمة في صنع العراق الجديد الذي كانت الولايات المتحدة تريد ان تستأثر بصنعه واخذت تعي انها لا تقدر على ذلك بمفردها، لذا فتحت منفذا ضيقا للامم المتحدة وللدول التي ترغب في ذلك للمساهمة بجانبها سواء في الحفاظ على امن العراق، او في اعادة اعماره اقتصاديا ولو انها لم تفتح الابواب على مصراعيها. وما تزال تمضي في هذا المسار بخطوات وئيدة حتى لا نقول انها تتحرك فيه باحتشام.

الجامعة العربية مدعوة لفرض نفسها في ادارة ازمة العراق كطرف اصيل. والخطوة الاولى هي الاجماع على الاعتراف بمجلس الحكم الانتقالي بوصفه هيأة مؤقتة مؤسِّسة للنظام العراقي المقبل. وعندما تتشكل الحكومة بالعراق تكون الخطوة الثانية هي الاعتراف بها كحكومة شرعية، والتعامل معها بوصفها حكومة مؤقتة لدولة العراق، وتمكين مندوبها لدى الجامعة من ملء فراغ مقعد العراق بدون تحفظ، في انتظار ان يتطور الحكم في العراق الى حكم دستوري شرعي تفرزه صناديق الاقتراع بعد مشاركة الشعب في الاستفتاء على الدستور واجراء الانتخابات التشريعية التي ينبثق عنها مجلس نيابي يعطي الحكومة ثقته ويضفي عليها الشرعية الدستورية. وحينئذ يصل الاعتراف شأوه لان الجامعة العربية تتألف من دول تتوفر لها جميع مقومات الدولة ولا تشغل مقاعدها مجالس او هيآت المجتمع المدني.