مقتل دي ميلو خسارة لأميركا أيضا

TT

حتى مقتل سيرجيو فييرا دي ميلو في بغداد الثلاثاء الماضي، لم يكن أي اميركي تقريباً قد سمع به. بيد ان هذا الدبلوماسي البارع كثيرا ما عمل لتنفيذ الكثير من السياسات الاميركية طويلة المدى، في الوقت الذي خدم فيه ايضاً الامم المتحدة بإخلاص، ومن دون ان يرى أي تناقض في ذلك. ففي العراق عمل دي ميلو من اجل السلام والامن والحكم الذاتي، وهي الاهداف الاميركية الرئيسية، وبينما كان يتفهم السياسات الاميركية الداخلية، فإنه لم يستوعب تماماً لماذا عملت واشنطن غالباً على اضعاف دور الامم المتحدة بدل تقويته. سيرجيو، وقد كان صديقي لاكثر من عشرين عاماً، ذهب دوماً حيث تتعاظم المخاطر. وعندما يصل كان ينفذ المهمة بكاريزما ودماثة وشجاعة. وعلي ان اضيف، وبشيء من الغيرة، انه كان باستمرار انيقاً مهما كانت الصعوبات المحيطة بالمكان. كان سجل سيرجيو حافلاً. منذ عام 1971 خدم في بنغلاديش بعد حرب البلاد للاستقلال، ثم في السودان، وقبرص (بعد الحرب)، وموزمبيق (اثناء الحرب)، والبيرو ولبنان وكمبوديا والبوسنة ورواندا والكونغو وكوسوفو، ومن ثم ما اعتبرها آخر مهامه انذاك، في تيمور الشرقية.في تلك البقعة النائية من جنوب شرقي اسيا بلغ دي ميلو قمم الاداء. فقد ارسل لهناك عام 1999 من قبل الرجل الذي كان يلقبه بـ «اخي»، السكرتير العام للامم المتحدة كوفي انان. تولى دي ميلو مسؤولية نصف جزيرة مزقتها الحرب مع اندونيسيا طوال 24 عام، وفي اقل من ثلاث سنوات اوصلها الى الاستقلال التام كأول أمة جديدة مع بزوغ فجر القرن الحادي والعشرين. في 20 مايو العام الماضي شاهدنا علم الامم المتحدة ينزل عن السارية في منتصف الليل في العاصمة ديلي (كان الرئيس السابق كلينتون وانا ضمن الوفد الاميركي الرسمي)، وارتفاع العلم الوطني الجديد للبلاد. وبذلك انتهت مهمة سيرجيو، وباشر الاستعداد بارتياح لتولي مهام اكثر سلاما. تبادلنا المديح والقبلات في حقل مغبر في العاصمة ديلي وقال سيرجيو، «حان الوقت للذهاب للبيت» ولم يكن يقصد بلاده البرازيل وانما جنيف حيث كان سيلتقي عائلته مجدداً وسيتولى منصب المفوض الاعلى لحقوق الانسان. لكن وفي شهور معدودة تطلب الوضع العراقي حضورا قوياً للامم المتحدة، وكان اسم واحد في اعلى قوائم كل الاطراف. حتى ادارة بوش كانت تعرف ان فييرا دي ميلو شخص مميز. مجدداً وبدون تذمر انطلق تلبية لطلب «اخيه». لقد عرف عنه بشكل موسع انه عمل لاقناع الهيئات الاميركية في بغداد بأن مجلس الحكم العراقي يحتاج الى ان يصبح اكثر من مجموعة ناصحة. وكان موقف دي ميلو هذا يعتمد على التجربة في كوسوفو وتيمور الشرقية. مع تعرف الاميركيين، بعد تأخر، على مزايا هذا الرجل العظيم، آمل ان يعترفوا بأنه وغيره ممن ماتوا او جرحوا في بغداد هم جزء من جيش هائل من الموظفين المدنيين لدى الامم المتحدة الذين يخدمون في ظروف بالغة الصعوبة حول العالم. بالطبع ليسوا كلهم بجودة دي ميلو، فبعضهم بيروقراطيون يقضون مهامهم كما هو الحال في معظم المؤسسات الكبرى. لكن الكثيرين منهم جيدون بالفعل. يبقى التأكيد على أن هجوم الثلاثاء على مقر الامم المتحدة في بغداد كان هجوماً على الولايات المتحدة ايضاً. الهدف الذي اختير كان ببساطة «سهلاً» في لغة خبراء الارهاب. لكن على الرغم من تقليل الاعتراف بها، وكثرة النقد عليها، وحجب الدعم الاميركي عنها، فان الامم المتحدة في العراق، كما في البوسنة وكوسوفو وافغانستان، تخدم مصالح اميركا طويلة الامد، وهي دوماً ينقصها الحماية والاعتراف الذي تستحقه.

* سفير أميركا لدى الامم المتحدة في عهد الرئيس كلينتون

(خدمة «واشنطن بوست»)