القُبْلة مجرد قُبْلة، والبسمة مجرد ابتسامة إذا مر الزمن وتحرك، أما ان جمد واحيانا يفعلها الزمن ويتجمد، وعندها يا ويلك من تلك اللحظة التي توقفت عندها عقارب الساعة، فمن المؤكد انه كان يعرف ان الزمن يلسع ويلدغ ذاك الذي اطلق على مؤشر الساعات اسم العقارب.
كافافيس الشاعر الفذ كان يعتقد ان المدينة التي أضاعتك أول مرة لن تتركك مهما هربت، وستتبعك الى الأبد، و«ريك بلان» الوسيم بطل فيلم «كازابلانكا» تجمد زمنه عند تخوم نظرة من «انجريد بيرجمان» في باريس وتوقفت اسطوانته عند أغنية «القبلة تظل قبلة..» ومن كثرة ما كانت تحرقه تلك النظرة وتثير شجنه تلك الأغنية منع المغني الزنجي سام من تأديتها في حانته التي افتتحها في «الدار البيضاء» في زمن كل ما فيه يقلق ويهرب ويغلي.
وقد التقط فندق في الدار البيضاء ذلك الإرث العريق للسينما العالمية فأعاد تركيب حانة بطل الفيلم بكل تفاصيلها، حيث تدخل الى هناك، فتجد قبعة مفتش الشرطة لوي، ومعطف همفري بوجارت وبيانو المغني سام وعشرات اللقطات لامرأة لها نظرة اعمق من المحيط الاطلسي اسمها في الفيلم إلزا لأن هذا الاسم أصلح الاسماء الاوروبية للرومانسية، فحبيبة «الدكتور زيفاجو» إلزا وكذلك حبيبة «أراغون» مجنون إلزا.
ولم ينجح فيلم «كازابلانكا» بالرومانسية وحدها فهذا الفيلم الذي صار اسطورة سينمائية واحتفل بعيده الستين في شهر اغسطس «آب» فيه خلطة نذالة وعنف ودم، وأجواء مريبة يتجاور فيها الرومانسيون والمهربون والانذال في حانة منسية خلف كل واحد من زبائنها قصة.
وفي الفيلم الذي طغت عليه الرومانسية لانه لا يوجد أحلى من الحب في زمن الحرب ـ وفي الأزمان كلها ـ يقول بوجارت لبيرجمان ذات العينين الشاسعتين اللتين يختلط فيهما الأزرق بالأخضر بالعسل: رأيتك آخر مرة حين سقطت باريس، النازيون كانوا يلبسون الرمادي وكنت بالأزرق. وحين يعمل على تهريبها مع زوجها التشيكي من المدينة المغربية تقول له وهي المتزوجة: كيف سأعيش دونك، فيرد: دائما سوف تظل باريس معنا.
لقد تجمد زمنه عند قبلة ونظرة، فهرب مع حزنه الى اقصى الأرض لكنها عرفت طريقها اليه بقلبها واقتحمت عزلته وحانته دون استئذان وهي تتأبط ذراع زوج آخر، ولعل أجمل لقطات ذلك الفيلم الحميم المشهد الذي يعزف فيه المغني سام أغنية:
You must Remember This، فيهجم عليه ريك غاضبا مؤنبا لأنه حذره اكثر من مرة ألا يغني اغنيتهما المشتركة كي لا ينكأ جراح الزمان الذي قهره الحب. ويتخلص المغني المسكين من الحرج بإشارة صامتة تؤكد ان التي سببت الجراح ومضت، عادت واختارت ان ترتاح من بين عشرات الملايين من حانات العالم في حانته.
ياه.. كم هو جميل هذا الفيلم الذي يلعب على أوتار الحب والواجب والحرب والسلام والسفالة والحزن والفرح والخيانة والاخلاص ثم يلقي بالأبطال والمشاهدين في ضباب نهايات مفتوحة على أفق حزين تختلط فيه المشاعر وتنبع من قلب الأحداث المظلمة وردة صداقة لتعزي عاشقا أضاع قلبه في باريس، وتجمد زمنه عند قبلة أقوى من بركان، ونظرة حب قاومت كل أعاصير النسيان، وظلت تشع كنجمة صارت بعيدة المنال بإرادة عاشق وضع الواجب قبل الحب ليصبح بطلا وتتحول قصة حبه الى اسطورة رومانسية حالمة.