انهيار الخريطة يفتح الطريق نحو التصعيد العسكري

TT

انهارت خريطة الطريق مع انتهاء الهدنة. لكن انتهاء الهدنة لم يكن السبب الوحيد لانهيار خريطة الطريق، إذ عاجلا أم آجلا كان الانهيار سيأتي. إن الظروف السياسية الراهنة لدى الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني، ليست ناضجة للخروج من حالة الصراع الراهنة والعودة لعملية سلام واعدة. كما أن الطرف الدولي، وخاصة الأمريكي، يفتقد للإرادة السياسية اللازمة لمواجهة اليمين الإسرائيلي أو حتى الإحساس بالعدالة والرحمة للتدخل لإيقاف حمام الدم. لهذا، فإن التصعيد العسكري سيكون على الأرجح هو سيد الموقف.

ما يحتاجه الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، لكنهما لن يحصلا عليه قريبا، هو تسوية نهائية شاملة لكافة عناصر الصراع. يدرك العالم أجمع أن مفاوضات الأشهر الستة ما بين كامب دافيد وطابا قد حققت تقدما هائلا تجاه تسوية كهذه. لكن هذا العالم الذي تقوده الإدارة الأمريكية الراهنة لا يمتلك الجرأة لمواجهة حكومة اليمين في إسرائيل بهذه الحقيقة وإجبارها على الاعتراف بها.

لكن الفشل الأمريكي والعالمي لا يقتصر على إجبار إسرائيل على استكمال المفاوضات النهائية، بل يتعداه ليشمل أيضا عجزا عن تصميم خريطة طريق قابلة للحياة. فخريطة الطريق التي تبنتها الرباعية وقدمتها للطرفين تفتقد لأبسط عناصر النجاح، إذ كيف يمكن لقيادة فلسطينية مضى على انتهاء شرعيتها الانتخابية أكثر من ثلاث سنوات أن تواجه بالقوة حركات سياسية وعسكرية واسعة الانتشار والتأييد بدون الحصول على مردود سياسي ذي قيمة.

إن المخاطر في مواجهة داخلية كهذه واضحة، وقد تصل حتى حدود الحرب الأهلية. فما الذي تحصل عليه القيادة الوطنية الفلسطينية في المقابل؟ إنها بالتأكيد لن تحصل على تسوية نهائية شاملة واضحة المعالم، فهذا أمر متروك لمفاوضات مفتوحة لا تبدأ إلا في المرحلة الثالثة من خريطة الطريق. إن ما تعد به خريطة الطريق في المرحلة الثانية هو دولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، وذات سمات سيادية وذات تواصل إقليمي. لكن خريطة الطريق لا تشمل قائمة بسمات السيادة هذه، ولا تحتوي خريطة ترسم الحدود المؤقتة وتظهر التواصل الإقليمي المطلوب. وبالتالي تبقى هذه المواصفات غامضة ولا يوجد لدى الطرف الفلسطيني الرسمي أو الشعبي أي ثقة بأن دولة كهذه ستعني أي جديد بالنسبة لهم، لا من حيث السيادة والاستقلال ولا من حيث إزالة الكثير من المستوطنات التي تعيق اليوم التواصل الإقليمي للأرض الفلسطينية. وحتى لو تم التوصل لاتفاق يقيم دولة ذات حدود مؤقتة، فهل هناك ضمانات أن هذه الدولة لن تصبح حالة دائمة وتطبيقا لأفكار شارون عن حل انتقالي طويل الأمد؟ وهل تدخل السلطة الفلسطينية في صراع داخلي مع حماس والجهاد الإسلامي مقابل وعود غامضة ومفاوضات غير مضمونة النتائج؟

إن كانت المواجهة الفلسطينية الداخلية غير واردة، فما هي الخيارات المتاحة للسلطة الفلسطينية؟ أمام السلطة الفلسطينية وفصائل المقاومة خياران رئيسيان: استمرار المواجهات المسلحة أو التوجه نحو مقاومة لاعنفية. إن الاستمرار في المواجهات المسلحة أمر ممكن، لكن له نتائج سلبية أساسية ثلاثا: استمرار بناء الجدار الفاصل، استمرار التوسع الاستيطاني، واستمرار الحصار والخنق للسكان الفلسطينيين. كما أنه يحمل إمكانية خطر رابع هو تشتت القيادة الفلسطينية سياسيا، وربما إبعاد رئيس السلطة إلى خارج المناطق الفلسطينية، ومن ثم تبلور حالة من الفوضى الأمنية والسياسية تهدد النسيج الوطني الداخلي بضربة قاسية. أما المقاومة اللاعنفية فتبدو إمكانيات استمراريتها ضعيفة. كما أن جزءا كبيرا من الشارع الفلسطيني لا يثق بقدرتها على تغيير أوضاعه. وفي كل الأحوال، فإن إيقاف المواجهات المسلحة لن يعني على الأرجح وقفا لبناء الجدار أو توسيع المستوطنات، وقد لا يخفف من الحصار. كما أنه عاجلا أم آجلا سيتصاعد نحو عودة ثانية لمواجهة مسلحة.

إن كان الخياران المتاحان غير قادرين على تحقيق أدنى الاحتياجات الفلسطينية قصيرة الأمد، فإن من المرجح أن انهيار خريطة الطريق والهدنة سيفتح المجال أمام العودة للتصعيد العسكري الإسرائيلي وخاصة في قطاع غزة. إن هذا التصعيد لن يجلب لإسرائيل أمنا، ولكنه سيزيد الغضب الفلسطيني وسيعطي العمل الفلسطيني المسلح مشروعية أوسع وسيجعل العودة لعملية سلام تفاوضية أمرا صعب المنال. في ظل ظروف كهذه سيكون أمام إسرائيل خياران رئيسيان: العودة الكاملة لاحتلال الأرض الفلسطينية في الضفة والقطاع وفرض حكومة عسكرية عليها أو الفصل الأحادي الجانب في ظل فرض وصاية أمنية ومدنية دولية على المناطق الفلسطينية التي تقبل إسرائيل بالخروج منها.

إن أي محاولة لإحياء خريطة الطريق أو الهدنة ستؤدي حتما إلى فشل جديد عاجلا أم آجلا، إذ أن بذور الفشل مزروعة في خريطة الطريق نفسها. لكن البدائل الأخرى كلها تبدو غير قادرة على إخراج الطرفين من حالة الصراع المسلح الراهنة. في ظل حكومة اليمين الحالية في إسرائيل، وفي ظل سلطة فلسطينية ضعيفة وهامشية، سيبقى الصراع المسلح هو سيد الموقف ولن يكون بمقدورنا الخروج منه. إن انتظار الخلاص من الإدارة الأمريكية الحالية أو ما يسمى بالرباعية الدولية ليس سوى أوهام للبسطاء والسذج.

* مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسيحية في رام الله