خريطة المقاومة هي وحدها الخريطة

TT

لأنني من الجيل الذي يحمل وعياً، يبلغ من الأعوام 56 سنة، بخسة الارهاب الصهيوني من عام 1947 حتى الآن، فأنا لا أندهش من صور الوحشية المنقولة للسمع والبصر عبر أجهزة الاعلام من كل صوب ومكان.

لقد ترعرعت مع جيلي على تفاصيل المجازر والذبح وبقر البطون وعصابات الهجاناه وغيرها، التي كان من مجرميها الارهابيين الرواد: بن جوريون، وبيجن، وموشي ديان، وجولدا مائير، ورابين... إلخ، الذين تركوا وراءهم تعاليم تربى عليها شارون ونتنياهو وبيريز وباراك وخفافيش المستوطنات ـ (المستخربات لا المستعمرات) من مصاصي الدماء العطشى دائماً إلى تجرع دمائنا في انتشاء لا يكتفي بأي ارتواء.

حين تحدث البعض منذ سنوات عما سموه «ثقافة السلام» و«كسر الحاجز النفسي» بيننا وبين عدونا الأبدي، لم يوضحوا للناس، في بلادنا، أن تلك الأبدية في العداوة لم نكن نحن مسؤولين عن اختيارها، لأن «العداء» اختيار يضعه المغتصب للحقوق الذي يأبى علينا أن ننساه لأنه باق لا يتزحزح عن كونه «المحتل»، السارق للأرض والوطن، «لص الثقافة» بحق، الذي يسلب هوية «فلسطين» وينسب لنفسه ثقافتها وفنونها وطعامها وحضارتها الممتدة منذ الأزمان البعيدة.

إن «السلام» له في تعريفنا دلالة لا تنفصل عن «الحق»، لا تنفصل عن «العدل»، لا تنفصل عن «الأمن» و«الطمأنينة» لأصحاب «البيت» و«الحقل» و«المسجد» و«الكنيسة» و«الأرض المباركة». وكل ثقافة تؤدي إلى تأكيد هذه الدلالة التي نفهم بها كلمة «السلام» هي فقط «ثقافة السلام» المعتمدة لدينا. وحين نرى العدو الصهيوني، العدو الأميركي، العدو الأوروأمريصهيوني، «يشقلب» لنا معاني «السلام» لتصبح وفقاً لأهوائه الشريرة ـ خضوعاً لشروط اللصوص تحت تهديد الإبادة بالطائرات والمجنزرات والرصاص ودك البيوت والحرمات والقلوب، التي هي أشد قسوة من الحجارة، فلابد لنا أن نقف وقفة «الشاهد الشهيد» لنقذف بالحق على الباطل ليزهقه، بحول الله وقوته، في مواجهة كل هؤلاء الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به «الحق». وليس أمامنا سوى «ثقافة المقاومة» لتتحقق لنا وللعالم دلالة «السلام» الأصيلة والأصلية.

لم تكن بيننا وبين العدو الصهيوني المحتل الاستيطاني ـ المتمثلة فيه أبشع وجوه الاحتلال قاطبة ـ أي «حرب». لقد أعلنوا «هم» علينا الحرب العدوانية وسموها كذباً وزوراً وبهتاناً «حرب التحرير» ـ التي يسارع البعض إلى تهنئتهم بذكراها ـ! وكان علينا أن نواجه العدوان بالصد وإماطة الأذى عن الطريق بمعارك «المقاومة».

منذ 1948 ونحن نقاوم، بل منذ 1928 ونحن نقاوم، بل منذ 1917 ونحن نقاوم، بل منذ قبل ذلك، حين بدأت اللصوص تزحف بحركاتها وألاعيبها وأفخاخها ونحن نقاوم بثقافة المقاومة، من نهاية القرن الـ19 وعلى طول القرن العشرين، التي تنبهت بجنودها إلى مخاطر ثقافة المحتل، الانجليزي والفرنسي والغربي بوجه عام، وقالت وقالوا: احذروا الطعام المسموم وإن بدا شهياً. فالحقيقة أننا لا نقترح الآن بداية لثقافة المقاومة، لأنها عميقة الغرس في تاريخنا وحضارتنا ونهضتنا العربية والايمانية والاسلامية، لكننا نؤكد على ضرورة «المواصلة» لثقافة المقاومة، التي يحاول البعض تثبيط الهمم عنها لصالح لجاجة عصابات النشل الحضاري وتجار الشنطة الثقافية، الذين يدورون على محافلنا ومؤتمراتنا ولجاننا بالنفايات الثقافية الملوثة لبيئة العقل والقلب والوجدان، بماركات «التنوير» منتهية الصلاحية منذ غروب الشمس عن امبراطوريات الاحتلال الانجليزي والفرنسي والايطالي.

أرجو ألا تختل عجلة قيادة بعض الأقلام لتنحرف إلى اليأس والاحباط وهزيمة الروح والاصابة بعقدة «اضطهاد الذات» ـ فيكفينا اضطهاد ما ابتلينا به من حكم الطغاة والجبابرة والمهووسين الذين شكلوا في بلادنا عمقاً محلياً للاحتلال الأجنبي.

«النقد الذاتي» حنون وغير متهكم، و«اضطهاد الذات» عنف ضد الذات يكسر في ضرباته كل أعمدة النهوض ويمزق أطواق النجاة.

ليست مهمتنا «الآن» أو «غداً» السعي نحو من اختاروا، بعد كل المذابح، أن يكرهونا ويفرحوا بما يصيبنا من كوارث. وليس من مهمتنا الآن أن نتلاوم ويؤنب بعضنا البعض الآخر أو يأكل لحم أخيه:

«تلوم عليا إزاي يا سيدنا

وخير بلدنا ماهوش ف إيدنا

قول لي عن أشياء تفيدنا

وبعدها ابقى لوم عليّا

أهو ده اللي صار

وآدي اللي كان

مالكش حق تلوم عليا!»