القذافي المخضرَم يستبق الخطر

TT

عند المفاضلة بين التشبث بالرأي والمعاندة خشية الانتقاص من الهيبة وبين المرونة الى حد المسايرة، فالاستدارة بالكامل او بدواعي التكتيك الذي لا بد منه في ساعات الشدة لإنقاذ مشروع شخصي وعام في الوقت نفسه، فإن كفة المرونة هي التي ترجح، وتكون خطوة عقلانية، خصوصاً في زمن كهذا الذي نعيشه منذ سقوط حقبة المنافسة الدولية، وبقاء الملعب السياسي حكراً على لاعب واحد.

وما فاجأ العقيد معمر القذافي الشعب الليبي واطرافاً عربية واسلامية ودولية كثيرة به، يندرج في بند الاستدارة لإنقاذ مشروعه الشخصي والعام. وتتمثل المفاجأة بقبول ليبيا، بعد الكثير من التردد، الاعلان وبصيغة رسالة الى الامم المتحدة، تحمُّل مسؤولية المسؤولين عن تفجير طائرة الـ«بان أميركان» فوق مدينة «لوكوربي» في اسكوتلندا عام 1988، ودفع حوالى ثلاثة مليارات دولار تعويضات لضحايا ذلك الحادث، وبمعدل عشرة ملايين دولار عن كل ضحية. ومقابل الدفع على اقساط يتم رفع العقوبات الدولية والاميركية عن ليبيا.

وما يمكن لمتابع مثل حالي للشأن الليبي، وعلى بعض الدراية بنظرة القذافي للامور، قوله في شأن هذه المفاجأة يمكن تلخيصه في ملاحظتين:

الاولى ـ لقد انتهت تجربة القذافي بمناخاتها المتنوعة من دون ان يحقق الحلم الذي في خياله لليبيا. وهو طوال ثلاثة عقود جرَّب اكثر من صيغة كان هو في استمرار محورها وقلبها النابض. ولكن هذه الصيغ لم تحقق ما يرجوه منها. وهو بعد انقضاء ثلاثة عقود وثلث العقد على تجربة الحكم، وجد ان ليبيا تواجه حالة حصار وعقوبات الدولية بدت في بعض جوانبها بمثل الاستعمار المفروض على بلد. ولأن المشهد بدا مفزعا وقد يتلوه ما هو اعظم، وبمثل ما اصاب العراق ولا يزال، فإن العقيد القذافي ارتأى ان لا يأتي اليوم الذي يسلِّم السلطة لمن بعده والبلاد مثقلة بقيود وسلاسل الحصار والعقوبات.

الملاحظة الثانية ـ ان الظروف الاقليمية والدولية ليست عادية لكي يمارس قائد من نوع العقيد القذافي المناورة التي كان حاذقاً في ممارستها في زمن مضى، ويحضرنا هنا كيف اهان الزعيم الليبي الكرملين وفي قلب القاهرة ايام المعاهدة المصرية ـ السوفياتية، ثم كيف انه بمقتضى فن المناورة اعاد الاعتبار الى الكرملين وبنى معه افضل العلاقات. وهو لا بد قرأ الأمر المتعلق بالظروف المشار اليها جيداً، وشعر من قبل مفاجأة الإعصار الناشئ عن العملية الترويعية في نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001، ان غباراً يحجب الرؤية في طريقه الى سماء المنطقة وأن حوافر خيول الهجمة الآتية قوية الى درجة انها لن تُبقي على بقعة خير، ثورية او غير ثورية، لن تحاول سحقها. ومن اجل ذلك بدأت تصدر عنه تعليقات ومواقف وتطلعات تشير الى ان الرجل يبغي السلامة وليس المواجهة. وفي هذا السياق كانت تلويحاته بالانسحاب من الجامعة العربية لأنه رأى ان العمل العربي التضامني المشترك سيكون مستحيلاً بعد الآن، وافترض ان هذه التلويحات ستقيه من انهمار تساؤلات الناس من المحيط الى الخليج كالمطر عن هذا التقاعس الشامل الذي تبدو فيه الأمة، تتلقى اللطمة تلو الاخرى ولا من يرد على الايذاء بالمثل. وعلى هذا الاساس يجوز القول، اجتهاداً، ان قبول القذافي الإقرار رسمياً بالمسؤولية، وبصرف النظر عما اذا كانت ليبيا هي الداعمة للجهة التي تسببت في تفجير الطائرة الاميركية، او أن عناصر ليبية هي من شارك بالفعل، هو لاتقاء شر آت قد يكون حرباً على ارض ليبيا، أو يكون عملية تغيير للنظام تنشأ عن مؤامرة محبوكة بحيث يصعب افشالها، ويتزامن مع العد العكسي لها تثبيت الحصار كأمر دائم وتصعيده مع الاكثار من الكلام الذي يندرج في الحرب النفسية. واذا كان هنالك مسؤولون اميركان قالوا، وبعدما كان تم الاتفاق على التعويضات ووصلت «رسالة الاعتراف» الرسمية الليبية الى الامم المتحدة، ان المليارات الثلاثة لا تكفي لإزالة القلق من القذافي، فما الذي كان سيقال لو أن «الاعتراف» المشار اليه لم يصدر عن اهل الحكم الليبي.

ويبقى ان هذه مجرد نظرة على وقائع آخرها وليس اخيرها «رسالة الاعتراف» ثم التعويضات، من دون ان يعني ذلك انها وحدها هي التي تجعلنا نرى بعد ثلاثة عقود وثلث العقد من القذافية اننا امام معمر القذافي الذي اضناه شقاء الصولات والجولات الثورية، فقرر أن يخطب ود اميركا بدفع "دية" لمئتين وسبعين مواطناً قضوا نحبهم دون وجه حق. وهو في موضوع "الدية" يكون كثير الانسجام مع تقاليد القبائل الليبية، ومنها القذاذفة، ويكون قادراً على ان يقول لمن ينتقده ان "الدية" هي بوابة المصالحة والاتفاق، وان عدم دفعها هو ترك الباب مفتوحاً اما الثأر حرباً مثل الحرب على العراق، او حصاراً وعقوبات مدى الدهر كما هي الحال مع ليبيا.