عراق الفرصة الآتية

TT

لا أسف منّا ربما!، لكنه أسى موجع ومقيم في قلوب الأميرة بديعة بنت علي (شقيقة الوصي على عرش العراق الأمير عبد الإله، وخالة الملك فيصل الثاني، ووالدة الشريف علي بن الحسين)، والسيدة رغد صدام حسين. للتو فرغت من قراءة كتاب «مذكرات وريثة العروش»، الذي يروي حكاية الأميرة بديعة، إبان العهد الملكي، ونهايتها المفجعة في قصر الرحاب ببغداد، كما شاهدت اللقاء المثير في قناة «العربية» مع السيدة رغد، التي وزعت التهم جزافاً على أركان النظام السابق، كانت المشاعر تجاهها خليطاً من الإعجاب والتعاطف، وسبب ذلك رباطة جأشها اللافتة. ونفس المأساة سترويها أسر الرؤساء نجيب الربعي وعبد الكريم قاسم والاخوة عارف واحمد البكر، لو قدر لهم. علينا ان نضع كل هذا خلفنا، ونتذكره للعبرة فقط.

بخروج قوات التحالف من العراق قريباً، ربما أتيح للعراق المعلق خارج المكان والزمان، وشعبه المثخن بالجراح والمثقل بالهموم، إطلاق زفرة ارتياح بعد حمامات دم تسببت بها الحكومات السابق ذكرها. كما يحق له الاسترخاء قليلا قبل ان يعاود نشاطه المعروف، ويشرع في إعادة بناء ما تهدم.

لا يغفل الأشقاء في العراق بأن الطريق إلى رخائهم يعبد بالأمن ويرصف بالاستقرار. ولن أضيف أكثر، لأن البلاد تعيش فردوساً من الآمال والوعود أطلقها كل محب، فالتفاؤل أصبح ترياقاً وحيداً يحتاجه أهل العراق.

ومع تولي بريطانيا منصب رئاسة مجلس الأمن في الشهر القادم سبتمبر (أيلول)، خلفاً لسوريا، تكون قد أنهت مشاوراتها المبدئية، حول استصدار قرار جديد من المجلس، يضع مسألتي إعادة الإعمار وإنشاء قوة متعددة الجنسيات لحفظ السلام على طاولة المناقشات بشكل رسمي. وهو ما سيتيح مجالاً رحباً لدخول أطراف أخرى فاعلة ومجاورة للتعاطي مع هاتين المسألتين المهمتين، وسيؤدي أيضاً، وبشكل تلقائي، إلى تخفيف العبء على الولايات المتحدة، التي تضطلع بدور شاق ومرهق في العراق أدى، أحياناً، إلى ردود فعل متشنجة لا مبرر لها من جهة، واضعف قدرتها على التحرك في أماكن أخرى ساخنة مثل ليبريا من جهة أخرى. كما فتح المجال لانتقادات لاذعة وجهها معارضون للإدارة الحالية، كان في مقدمتهم منافس الرئيس بوش في الانتخابات الرئاسية الماضية السيد آل جور، الذي قال في مؤتمر حزبي عقد أخيراً في نيويورك: «إن غزو العراق لن يكون له تأثير على أنشطة تنظيم القاعدة، باستثناء التشجيع على الانضمام إليها»، وأضاف: «إن (الرئيس) بوش نجح في إزاحة النظام السابق، لكن طريقة إدارة الأزمة بعد انتهاء الحرب كانت بالغة السوء».

ان المصاعب التي يواجهها 145 ألف جندي أمريكي في العراق، وارتفاع نسبة البطالة (%6.5)، بالإضافة للغط الذي صاحب عمليات فرز الأصوات بولاية فلوريدا ونتائجها في الانتخابات الأمريكية الأخيرة، ستكون جميعها، بدون شك، حاضرة بقوة في ذهن الناخب في المرة المقبلة (ستجري العام القادم). والقائمون على الحملة الانتخابية في المعسكرين الجمهوري والديمقراطي لا يغفلون ذلك، بل ان كل طرف يسعى لتوظيف هذه المعطيات على أكمل وجه لخدمة مصالحه.

أعود إلى العراق وضرورة تصالح العراقيين مع ذواتهم أولاً، ومع الآخر ثانياً، ليتمكنوا من النهوض من هذه الكبوة. وأسوق مثالاً اخترته من بلادي: قبل سنوات عدة، حدثني رجل مسن عن حكاية رجل آخر عاصره وكان من جيل والده، يسكن في إحدى قرى نجد المتشحة بالفقر والبؤس في القرن التاسع عشر. وقد اضطرته الفاقة كغيره للسفر مشياً على الأقدام مئات الأميال في الصحراء، لا زرع فيها ولا ضرع، للعمل في نقل الرمال لإصلاح أرض زراعية في منطقة الأحساء المجاورة. كان الأجير هذا يعمل منذ الفجر وحتى المغيب، يحمل الرمل في زنبيل مثقوب على رأسه وينقله من مكان إلى آخر مسافة عدة أميال. وحين يبلغه تكون حبات الرمل الحارة تساقطت من الزنبيل المثقوب وملأت عينيه وغطت جفونه. ومقابل ذلك، كان العامل يتلقى أجراً يومياً لا يزيد على ريال واحد شاملاً غذاءه؟!. بعد عدة أشهر ينتهي العمل ويحصد العامل غلته، عدة ريالات لا تسد رمق أسرته. يعود متلهفاً للقاء أهله وسط توجسات غدر الطريق والموت الذي قد يأتيه في أية لحظة. كان عالم ذلك الوقت قاتماً ومجهولاً تخنقه العزلة، وكانت بلادي غارقة في الفوضى والفقر والحروب أيضاً. كان أكل الجراد يعد ترفاً، وكانت القراءة شرفاً محفوفاً بسلطة محسودة. زد على ذلك، قدراً هائلاً من معاناة متراكمة جعلت الشعب السعودي، بعد توحيد البلاد، أخيراً، على يد الملك عبد العزيز يرحمه الله، يتشبث بالمكتسبات الفريدة التي تحققت وفي مقدمتها الأمن والاستقرار اللذان لا يقبل العبث بهما أي عاقل.

في كتابها الرصين (Ibn Saud)، عن المغفور له بإذن الله الملك عبد العزيز، تقول الكاتبة ل. مكلوغلين L. Mcloughlin: «لقد أمكن له أن يقيم مملكة على أنقاض فراغ في السلطة وفوضى محلية لا توصف».

بصراحة، العراق اليوم أفضل، خاصة بعد تشكيل مجلس الحكم الانتقالي، الذي أظهر تجانساً في عمله حتى الآن، بل قام أخيراً بتشكيل لجنة كلفت بصياغة دستور جديد للبلاد. في المقابل، وضعت الولايات المتحدة ثقلها لاصدار قرار من مجلس الأمن يضفي صبغة شرعية على المجلس الوليد، وأكاد أجزم أنه ضم كل ألوان الطيف السياسي العراقي عدا الحركة الملكية الدستورية العراقية، وأتساءل: هل يهم النمر خط إضافي؟. فقط مزيداً من التفاؤل وبعض الصبر وتذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: «من كظَم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيّره من الحور العين ما شاء».. (حسنه الترمذي، ووافقه الألباني).

* كاتب سعودي