الحب.. لا يكفي

TT

من حقك ان تحب الحياة فلا قيود على الحب، وان تغترف من مباهجها حتى الثمالة، ومسموح لك ان تجوب العالم طولا وعرضا، وان تختار قاربا يناسب حجمك، وتمدد ساقيك، وتسترخي مطلقا العنان لخيالك، وتدع الهواء يوجه شراعك الى وجهة غير معلومة، ومن حقك كذلك ان تغمض عينيك وترمي حمولة مسؤولياتك خلف ظهرك وتنام قرير العين بعد نهار حافل من المتاعب، لكن ليس من حقك ان تقمع ذاتك، او تحبسها في قفص فولاذي لا منافذ له، كون الذات هي التي تدفع الانسان الى اكتشاف المجهول وتحديد المصائر. صحيح من الصعب ان نوقف عجلات الزمن، او نعيدها الى الوراء او ندفعها الى الامام، او نجعلها تسير في طريق معاكس، الا ان مصائرنا تشغل دوما فكرنا، ويسيطر علينا هاجس الخوف على مستقبلنا، ونظل ندور في ساقية القلق والترقب على نجاحاتنا في الحياة حتى تحرمنا من الاستمتاع بلحظات يومنا، ونهدر يومنا في التحسر على جزئيات مضت من حياتنا. ونوقف عقارب الساعة عند مواقف معينة!! العديد من صور حياتي تمنيت لو اعدت اخراج فصولها الاخيرة من جديد وبرؤية مختلفة وبأبطال مغايرين، لأمحو بها تجارب مؤلمة مررت بها في محطات حياتي، لكنني خرجت بقناعة راسخة بأن الألم من الممكن ان نسخره لتغيير الواقع، ومن الممكن ايضا ان نجعله امتدادا لحاضرنا، اذا عجزنا عن انتشال انفسنا من دائرة الوجع. لذا يرى احد المفكرين ان الحياة عذاباتها اكثر من ملذاتها، وان على الانسان ان يبحث عن طرق تخلصه من هذه العذابات بدلا من البحث عن السعادة. بعكس البوذية التي تنادي تعاليمها بعدم التعلق بأي شيء، ومحاولة التخلص من الافكار بدلا من تعلمها، من منطلق ان الحرية الباطنية هي الارادة والحرية الخارجية هي الفعل. وفي هذا يقول الاديب محمد شكري «.. المرء ليس دائما هو كيف انتهى وليس كيف بدأ، فقد ينتهي بما بدأ او لم يبدأ بما انتهى.. اننا ما نصير اليه.. الخريف قد يدركنا قبل الخريف.. لا احد يضمن ثمار جنته».

لدي قناعة بأن الحياة مثل اللوحة السريالية المتشابكة الخطوط، المتداخلة الالوان، هناك فئة من الناس تشدهم الوانها القاتمة، كون اعماقهم مكبلة بأغلال التشاؤم، وهناك فئة تتطلع بانبهار الى خطوطها، لأن دواخلهم يشع منها ضوء التفاؤل، وهناك فئة ثالثة تنظر اليها كلوحة متكاملة، لقناعتهم الداخلية بأن الحياة تعج بكافة المتناقضات من غبطة وفرح وسعادة وشقاء، حيث صدق قول الشاعر «كن جميلا تر الوجود جميلا».

لقد ميز الله الانسان عن كافة مخلوقات الله بالعقل والارادة، اللذين يحفزانه على الخلق والابداع، وبالتالي يؤديان الى تطور وارتقاء مجتمعات الدنيا، وبداخل كل انسان منا بذرة ابداع في جانب من جوانب حياته، قد يعيش ويموت دون ان يضع يده عليها، او تلمسها انامله، وقد يكون محظوظا اذا اكتشفها في بداية حياته، لحظتها تكون الفرص مواتية امامه لكي يرعاها بين احضانه حتى تشب عن الطوق، ثم يظهرها على الملأ، وقد يكون اقل حظا فيعثر عليها وهو في خريف العمر، موقنا ان العمر مضى منه الكثير ولم يتبق الا النزر اليسير، لحظتها يضطر الى وضعها في حوض زجاجي ليتفرج عليها، مثل احواض السمك الجميلة التي يراقب المرء الوانها الزاهية دون ان يجرؤ على دس يده وامساك احداها، حتى لا تموت اختناقا بين كفيه!! وهناك من يكتشف موهبته مبكرا، لكن القدر يعاجله بضربة قاضية تعيقه عن تحقيق احلامه، وهذه الخيبات يقع فيها كافة البشر، لكن الاختلاف ينبع من قدرة البشر على استيعاب آلامهم، وتجاوز خطوط الاعاقة في حياتهم. يقول احد الأدباء «.. لا بد ان نعود اطفالا مندهشين مرة اخرى لنشعر بالحياة من حولنا.. ربما كنا قادرين على رؤية الكون واستكشافه.. لكننا لسنا قادرين دائما على رؤية انفسنا.. في داخل كل منا كتلة صغيرة من الذهب مهما تصورنا أنفسنا عاديين..».

بالمختصر المفيد «اعرف نفسك»، فمعرفة النفس تختصر مسافات كثيرة في دواخلنا، تجعلنا ماهرين في القفز على آلامنا، وتجاوز المعوقات المحيطة بنا، من خلال مصادفة آلامنا وتطويعها حتى نتمكن من انتشال انفسنا من بحيرات الحزن، الى جانب ان انبهارنا بكل جديد سيشعرنا بأننا نتفاعل مع المحيط الخارجي، وتجعلنا اكثر قدرة على الاحتفاظ ببراءة طفولتنا التي تتساقط منا تدريجيا مع تراكم التجارب ونضج السنين.

يقال بأن الاديب نجيب محفوظ لم يعتد يوما على املاء نتاجه الادبي، ولا يعرف التسجيل، حتى تعرض للحادثة التي طعنه فيها احد المتطرفين، وكادت تودي بحياته وجعلته عاجزا عن الامساك بالقلم ومشاهدة التلفاز والمسرح والسينما، والحرمان ايضا من القراءة، لكنه لم ييأس وقام بتدريب نفسه على الامساك بالقلم والتمرين على الكتابة، التي لم تكن تفهم في البداية حتى نجح في خط كلمات، ثم تدرجت الى بضعة أسطر. كما عبر بيكاسو عن ألمه بقصف «جيرنيكا» احدى المدن الاسبانية ابان حكم النازي، برسم لوحة سماها «جيرنيكا» وقد مات بيكاسو وبقي ألمه مخلدا في لوحة من ابداعه. واذا رجعنا الى حضارتنا الاسلامية، وطالعنا سيرة الجاحظ، سنرى ان هذا الاديب الذي اثرى المكتبة العربية بمؤلفاته، قد اصيب بالفالج وهو في قمة توهجه الادبي، واخرج لنا وقتها اعظم كتبه، ككتاب البيان والتبيين، والحيوان، ورسائل أدبية غاية في الروعة.

لا يكفي ان نحب انفسنا، فقد يعطي الحب رد فعل عكسيا اذا كانت درجة حرارته عالية وتركناه دون رعاية فكرية، مما يؤدي الى سقوطنا لاحقا في دائرة الانانية وحب الذات واستحواذ غريزة حب التملك علينا، المهم ان نتعلم كيفية التعامل مع مطبات الحياة بفن، وهذا لن يكون إلا اذا نجحنا في فهم انفسنا.