وهذا تضليل آخر بشع..!

TT

أصدر المفتش العام لوكالة حماية البيئة، تقريرا بالغ القسوة مؤكدا حقيقة طالما شك البعض في وجودها: وهي أنه بعد انهيار مبنى مركز التجارة العالمي، ظلت الوكالة تضلل سكان نيويورك بصورة منتظمة حول طبيعة الأخطار التي يمثلها تلوث الهواء على أوضاعهم الصحية. كما كشف التقرير عن أنها كانت تفعل ذلك تحت ضغط البيت الأبيض. وقد تعمدت إدارة بوش تضليل الجمهور حول قضايا عديدة، من توقعات الموازنة إلى الخطر العراقي. ولكن هذا التضليل الأخير لا يبدو بشعا فحسب، بل مجانيا كذلك. ولا يبدو خداع الإدارة الأميركية في حجمه الحقيقي إلا إذا نظرت إلى الوراء لفحص سياسات الموازنة عام 2001.

في يناير (كانون الثاني) الماضي اعترف تقرير وكالة حماية البيئة أن تفجيرات 11 سبتمبر (ايلول) أطلقت كميات هائلة من المواد الملوثة للبيئة. وأورد التقرير أن نفثات الديوكسين، وهي من مسببات السرطان التي يمكن كذلك أن تدمر الجهاز العصبي وتسبب التشوهات الجنينية، «خلقت كتلا مركزة في الغلاف الجوي، زادت عن المستويات العادية بمقدار 1500 مرة. ولكن النتيجة التي وصل إليها التقرير هي أن الهواء الخارجي يصفو خلال شهرين أو ثلاثة، ولذلك لم تنتج أضرار كبيرة عن هذا الوضع».

ولذلك فان اخطر ما كشفه التقرير الأخير، هو ان وكالة حماية البيئة امتنعت تحت ضغط البيت الأبيض عن نشر التحذيرات عن الملوثات داخل المنازل والمباني. وتدل المعلومات المتفرقة على انه، ونتيجة هذا الوضع، صار المئات من عمال النظافة والآلاف من السكان يعانون من مشاكل صحية خطيرة جدا.

لماذا حجبت عن الجمهور هذه المعلومات الخطيرة؟

يذكر التقرير «الرغبة في إعادة افتتاح وول ستريت، وبعض مشاغل الأمن القومي».

وربما يكون ذلك صحيحا. ولكن الفوائد التي يمكن أن تعود على الأمن القومي من الفشل في التخلص من الغبار السام، تغيب عني تماما. ولذلك أرجح أن هناك سببا آخر: هو سياسات الموازنة.

كان هناك، بعد 11 سبتمبر مباشرة، دفق من العواطف الوطنية الجياشة تجاه نيويورك، كما تولدت دوافع تلقائية لتقديم المساعدات. ووعد الرئيس بوش مباشرة بتقديم 20 مليارا من الدولارات، وتوقع الجميع أن تضطلع الحكومة الفيدرالية بالأعباء الأمنية المتبقية. ولكن المتشددين من الجمهوريين لم يكونوا راغبين مطلقا في مساعدة المدينة المنكوبة. وتقول مقالة نشرها مايكل تومسكي، في مجلة «نيويورك»، إن عضوي مجلس الشيوخ، فيل غرام، ودون نيكلز، حاولا تخفيض العون لنيويورك بعد ساعات فقط من إعلان الرئيس بوش.

وقد حدثت تسوية للمسألة بحيث تمكن بوش من تسجيل زيارته المنتصرة إلى البقعة صفر في اليوم التالي. ولكن التباطؤ بدأ بعد ذلك مباشرة. وبحلول فبراير (شباط) 2002 لم يصل سوى جزء صغير من الأموال الموعودة. ومع ذلك فإن ميتش دانيالز، مدير الموازنة بالبيت الابيض، اتهم محامي نيويورك بأنهم يمارسون «لعبة الاستيلاء على الاموال».

لماذا هذا البخل؟

قال توماسكي إن أحد المصادر أبلغه أن «غرام لا يحب صرف الأموال... أما نيكلز فهو ببساطة ضد نيويورك». وهذا يلخص كل شيء: فحتى بعد 11 سبتمبر كان المتشددون من الجمهوريين يعارضون أي نوع من الإنفاق، مهما كانت مشروعيته، إذا لم يكن على الأسلحة او دعم الزراعة، كما أن بعض الناس من «الولايات الحمراء» يكرهون ـ هكذا ـ سكان المدن الكبيرة.

ما دخل كل هذا في الغبار السام؟

لك أن تتصور كم كانت الأمور ستصبح أصعب بالنسبة لنيويورك، إذا اقتنع الجمهور بأن مانهاتن السفلى صارت بقعة خطرة للمواد السامة؟ ولا أستطيع أن أقيم الدليل على أن ذلك هو ما كانت تفكر فيه الإدارة، ولكن إذا لم يكن ذلك واردا فإن مجهوداتهم للتقليل من الأخطار تبقى بلا معنى.

وفي نهاية المطاف يبدو أن نيويورك حصلت على ملياراتها العشرين، او على مبلغ قريب منها. أما بالنسبة للمساعدات التي كان الجميع يتوقعها، فأرجو ألا تدفعني إلى طرح هذا الموضوع. لم يصل فلس واحد من المعونات الفيدرالية، لأولئك الذين عرفوا بأنهم «المستجيبون الأوائل»، مثل عمال الإطفاء وضباط الشرطة الذين استقبلوا بوش ذلك الاستقبال الحار في البقعة صفر. ولكن العون وصل إلى كثير من الولايات الاقل ازدحاما بالسكان. وتنفق الحكومة الفيدرالية مبالغ أكثر بكثير على حماية المواطن المتوسط بولاية ويومنج، من الإرهاب، مما تنفقه على حماية مواطن نيويورك.

وعلى وجه العموم فإن الناس الذين يديرون واشنطن، والذين يشيرون بقوة لأحداث 11 سبتمبر كمبرر لكل ما يفعلون، قد عاملوا بإهمال شديد المدينة التي تحملت العبء الأكبر من تلك الأحداث. وفي سبتمبر 2004 سيعقد الجمهوريون المؤتمر الذي ينتخب مرشحيهم بنيويورك. فهل سينتهز النيويوركيون الفرصة لتذكيرهم كيف تعرضت المدينة للأكاذيب والمعاملة الجافية؟