الدبلوماسية الأمريكية.. يد (تصلح) وأخرى (تفسد)

TT

سلسلة طويلة من الاستقالات تتابعت حلقاتها في عهد الادارة الامريكية الحالية. وقد حدثت الاستقالات في مواقع حيوية ورفيعة. ومن ذلك: استقالة وزير الجيش.. والمسؤول عن مكافحة الارهاب في مجلس الامن القومي.. ودبلوماسي رفيع في السفارة الامريكية في اثينا.. ومسؤولين كبيرين مكلفين بـ(تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم).. وهذه نماذج من الاستقالات فحسب.. لماذا جرت هذه الاستقالات ؟.. الاسباب متعددة متنوعة. ولكن السبب الجامع هو: أن هؤلاء المستقيلين فقدوا (دافع) الاستمرار في العمل بسبب التخبط الحاصل، والاعراض عن النصح الذي تقدموا به لإصلاح الحال.. وبشيء من التفصيل: تتضح الصورة أكثر، فقد قال الدبلوماسي الامريكي السابق في اثينا: «ان سياسة بلاده الحالية تضر بصورة امريكا وبمصالحها».. أما المسؤولان الكبيران المكلفان بتحسين صورة امريكا، فقد روعهما التناقض الحاد بين ما كلفا به وبين توجهات السياسة الامريكية الخاطئة في العالم: الوطن العربي: والعالم الاسلامي واوربا.. الخ. لقد اقتنع هؤلاء بأن ما يصلحونه (بيمناهم)، تفسده دوائر أخرى (بشمالها).

والتضارب الشديد بين محاولات الاصلاح وبرامج الافساد: توجه لايزال مستمرا.

كان مقال الاسبوع الماضي، تعقيبا او تحليلا لمهمة لجنة امريكية عليا تسمى (لجنة تقويم الدبلوماسية الامريكية).. والمهمة المحددة لهذه اللجنة هي: التعرف الموضوعي على اسباب الكراهية المتزايدة للولايات المتحدة، واسوداد صورتها لدى معظم شعوب الارض. ثم رسم خطة من شأنها إزالة الكراهية ـ او التقليل من مساحتها وضراوتها الى ادنى حد ـ.. وتجميل الصورة والسمعة.

ولقد نشط رئيس اللجنة (ادوارد جيرجيان)، بل ركض ـ بدوافعه الوطنية ووعيه بحقيقة الازمة ـ، في سبيل انجاز الهدفين الاساسيين للجنته.. مثلا: لقد اجتمع مع نخب مختلفة في الوطن العربي وحاورها، وقال لها، واستمع إليها.

هذه يد امريكية تصلح الدبلوماسية الامريكية، او تحاول ذلك.

بيد ان هناك (يدا) اخرى (تجهض) محاولات الاصلاح وتنقضها: بفهم خاطئ، او بغفلة رهيبة، او بالاستجابة لمشورة خبيثة من الذين يفسدون في الارض ولا يصلحون.

ومن الامثله السافرة على اتجاهات الاجهاض والنقض:

1. تأييد (عمليات الاغتيال) الصهيونية بالصمت المريب، والايحاءات المشجعة، ويلحق بتأييد عمليات الاغتيال: مناصرة المظالم الاسرائيلية باطلاق.. فكيف يمكن ان تجمل صورة امريكا في مرآة الرأي العام العربي، في حين ان (الفعل الامريكي) يصب أطنانا من السواد على هذه الصورة؟.. وكيف يمكن أن تثق الشعوب العربية بمصداقية الولايات المتحدة في حرب الارهاب وهي ترى ان امريكا تدعم عمليات الاغتيال الصهيوني أو تغضي عنها، أو تباركها؟ ومن المعلوم في السياسة والامن ـ بالضرورة ـ: ان الاغتيال هو ذروة الارهاب وصورته المغلظة، بمعنى: ان عالم الناس وجاهلهم يعرفون هذا الامر.

2. التخبط المهلك في العراق، فبعد أن جرى ما جرى، كان على الادارة الامريكية: ان تسارع الى (قرار عقلاني وشجاع) يمتص المرارة او يخفضها: قرار ينقه من الاكاذيب، ومن ذهان القوة، ومن نقيصة تجاهل الاخرين، عراقيين وغير عراقيين، قرار تلحقه الحكمة البعدية، بعد ان فاتته الحكمة القبلية، ولكن يبدو ان التخبط (سياسة) اعتمدها اولئك الذين لا تهمهم صورة الولايات المتحدة ولا مصالحها، وانما يهمهم تسخير قوتها وإمكاناتها في تحقيق اهدافهم الخاصة.. ويهمهم ان تظل صورة الولايات المتحدة في المنطقة سيئة، لكي يستمدوا من هذه الصورة ـ التي يعملون هم انفسهم على تثبيتها ـ: مادة سياسية وإعلامية تقول: (الم نقل لكم ايها الامريكيون ان العرب والمسلمين يكرهونكم وسيظلون يكرهونكم)؟

3. تعيين (ناشر البغضاء العالمي).. (دانيال بايبس) عضوا في مجلس امناء (المعهد الامريكي للسلام).. ولقد جرى تعيينه في غيبة الكونجرس الذاهب في اجازته السنوية.. وبالتاكيد لن يحدث انقلاب كوني في الولايات المتحدة لو أن مسألة تعيينه تأجلت حتى يعود النواب والشيوخ الى مجلسهم المشترك، ولذا فإن في الاستعجال امرا مريبا او غير مطمئن ـ على الاقل ـ.. وجرى تعيين هذا الهجاء السباب الشتام اللعان المتخصص في الحقد على الاسلام ـ كتابا وشريعة ونبيا ـ الساعي بجهده كله الى تقبيح صورة العرب والمسلمين والمحرض عليهم داخل الولايات المتحدة وخارجها، جرى تعيين هذا اليهودي الباغي، والصهيوني المفتري، على الرغم من المعارضات الهائلة لتعيينه، وهي معارضات اضطلع بها: عرب ومسلمون امريكيون وساسة امريكيون بارزون مثل السناتور (ادوارد كندي).. ويهود ليبراليون «!!».. واساتذة جامعات.. وصحف شهيرة ذات وزن مثل الـ(واشنطن بوست).. وتقف وراء هذه المعارضات حقائق موضوعية منها:

أ ـ ان هذا الشخص ليكودي اكثر من الليكوديين المتعصبين، وهو يؤيد شارون بإطلاق ويرى أن كل تصرفاته (مقدسة).

ب ـ يطلق حملات نفسية وفكرية إرهابية ضد أي واحد من زملائه في الجامعة ويتهمه بمعاداة السامية اذا هو ابدى وجهة نظر معتدلة تجاه العرب والمسلمين وبإزاء الصراع في المنطقة.

ج ـ لا يفتأ يشن حملات كراهية وتحريض ضد العرب والمسلمين ويطالب بفرض رقابة صارمة خاصة على كل عربي ومسلم (امريكي) في كل موقع ولا سيما في الجيش الامريكي.

د ـ يدعو الى التفرقة العنصرية ويتبناها.

هـ ـ يعارض السلام بين العرب واسرائيل (ولذلك عين عضوا في مجلس معهد السلام الامريكي كجائزة ادبية له على موقفه المعادي للسلام)!!

ما هي الضرورة الملجئة الى تعيين شخص معاد للسلام في معهد للسلام؟.. لا ضرورة قط، ففي البلد (امريكا) من هو أفضل مئات المرات من هذا (الولد).. وبسقوط الضرورة، يتبين: أن تعيينه يتضمن او يتعمد الاساءة الى الاسلام والمسلمين: تطوعا وترفا من عند انفسهم.

وقد يقال: ليس كذلك، بل تعيينه كان (زلة قرار) مثل زلة اللسان التي حملت معنى: أن ما يجري بعد أحداث 11 سبتمبر إنما هو (حرب صليبية).. ونحن نتمنى ان تكون هذه المواقف ـ ومعها التصريح في قمة شرم الشيخ بان اسرائيل (دولة يهودية) ـ: أن تكون هذه المواقف مجرد (زلات)، بيد أن الاحتكام الى منهج (تحليل المضمون) قد يفيد بأن (تكرار المعنى) في عبارات ومواقف مختلفة، يترجم (طريقة تفكير ثابتة او نمطية).

إن اناسا كثيرين: امريكيين وغير امريكيين ـ ونحن منهم ـ يجتهدون في تجريد ما جرى ويجري من (الالغام الدينية) التي يمكن ان تفجر العالم تفجيرا دونه تفجير المخزون النووي العالمي، وهو تفجير تستحيل مكافحة الارهاب في أتونه ومناخه الساخن جدا، لكن هذه الزلات لا تعين على ما يبتغيه العقلاء الذين يريدون كوكبنا هذا: امنا للجميع، وسلاما للجميع.. ثم ان هذه الزلات المتكررة لا تعين لجنة جيرجيان، ولا الدبلوماسية الامريكية بوجه عام، على تحسين وجه الولايات المتحدة في العالم العربي والاسلامي.

والمفارقة الشادخة للرأس: أن هذا يحدث في زمن لم نر زمنا مثله مفعما بفرص التفاهم والتعاون بين الامتين: الاسلامية والامريكية.. ومن هذه الفرص: مكافحة الارهاب.. والخروج العاقل من مأزق العراق.. وتوطين السلم في المنطقة.. والتعاون الاقتصادي العظيم الذي يعجل بتنمية المنطقة وبتعافي الاقتصاد الامريكي، غير أن هذه الفرص تتجاهل وتجهض من قبل الاشقياء الجالبين النحس على الولايات المتحده، فهم يخافون من التعاون الصادق على مكافحة الارهاب لان هذا التعاون ينسف نظريتهم القائلة بان العرب والمسلمين ارهابيون بحكم ثقافتهم.. وهم لا يريدون السلام من حيث انه يؤدي ـ في تصورهم ـ إلى استرخاء المجتمع الاسرائيلي وتآكله.. وهم لا يريدون خروجا امريكيا معقولا من مأزق العراق لأن هذا الخروج يتعارض مع استراتيجيتهم الاساسية، ولأنه قد يركز الجهود على إنهاء الصراع العربي الاسرائيلي.. وهم لا يريدون تعاونا اقتصاديا كبيرا ـ عربيا أمريكيا ـ فهذا التعاون يفضي الى تنمية الوطن العربي، في حين ان الثابت الصهيوني هو ان يظل العرب امة (كسيحة) وهذا التعاون يعزز ـ من جانب آخر ـ العلاقة والصداقة بين العرب والامريكيين، وهي علاقة يخشاها الصهيونيون خشيتهم من الموت.