الرجل ذو الهاتف

TT

للاديبة غادة السمان قصة قصيرة من الستينات عنوانها «الرجل ذو الهاتفين». وقد بقي العنوان في ذاكرتي بعدما قال لي الناقد وليد ابو بكر، بعد نحو عشرين عاماً على صدور القصة، ان بطلها زميل يعرفه كلانا. والاسبوع الماضي كنت في مكتب الزميل العزيز بكر عويضة، الذي يجعله مكتباً لي كلما زرت الجريدة. ودخل علينا الزميل عبد اللطيف المناوي وفي يده هاتف خليوي اعطانيه من دون اي مقدمة. ووضعت يدي على فوهة الهاتف وسألت عبد اللطيف: من؟ لكنه قال هامساً: تكلم تكلم.

امتثلت وانا اعتقد ان على الجانب الآخر صديق مشترك من مصر. لكن المتحدث قال فوراً بأدب انه فحيمة. وقبل ان اسأل ان كان هو فحيمة لا سواه، قال انه فحيمة لا سواه، وقال لي الا افاجأ بأنه يتحدث من سجنه، لان له الحق بنصف ساعة هاتف في اليوم. وقد قرر ان يمضي شيئاً من حصة هذا النهار في مكالمتي. وقال انه في السجن يقرأ «الشرق الاوسط» كل يوم. ويحترم كتابها. وانها رفيقته. ولكن هو عاتب على المحبّر. وقال: «يشهد الله انني بريء. وسوف يأتي يوم تثبت فيه براءتي لأن ايماني بالله عظيم». جرى هذا الحديث في اليوم الذي بعثت ليبيا بالرسالة الشهيرة الى مجلس الامن حول المسؤولية في مأساة لوكربي. لكن الرجل على الهاتف كان يبدو صادقاً. وكان يبدو ملهوفاً. وكان يبدو انه مهتم بما يكتبه صحفي عربي اكثر من اهتمامه بالحكم. وبعد المكالمة بأيام، كرت سلسلة رسائل التعويض حتى وصلت الى ضحايا مقهى «لا بيل» في برلين، الذي بسببه ارسل رونالد ريغان في قصف منزل العقيد القذافي مما ادى، افتراضياً، الى انتقام لوكوربي.

قلت للأخ فحيمة وانا اتبين في صوته الصدق والاسى والحال التي لا يحسد عليها، في اي حال، قلت له انني في نهاية المطاف لست سوى محبَّر. لا انا اضع القانون ولا انا اطبقه ولا انا احاكم ولا انا اصدر الاحكام. وشرحت للرجل، انني طوال البحث في موضوع لوكوربي كنت اكتب بصيغة التشكيك. وبعدما صدرت الادانة لم اكتب شيئاً، لأنني كنت اتمنى ان يكون بلد عربي بريئاً من هذه التهمة. ولم اكتب حرفاً الا بعدما اقرت ليبيا نفسها بالأمر وصرح السيد نائب وزير الخارجية بأن ليبيا «تتطلع الى علاقة مميزة مع الولايات المتحدة.

اما انت يا عزيزي فلم آت على ذكرك الكريم الا لماماً واقتضاء الشرح او الاشارة. وسواء كنت بريئاً- كما اتمنى- او مظلوماً بالادانة، فإنك في نهاية الامر موظف بسيط في خدمة الدولة. واعدك من الآن فصاعداً الا آتي على ذكرك الا وقد وضعت في اعتباري شعورك بالبراءة وشكواك من ان المحبر متحامل، وهو ليس كذلك. هو انسان يريد البراءة للابرياء ويريد الحياة للمسافرين الابرياء ايضاً. ومع انك في سجن فيه هاتف وتلفزيون وكتب ومجلات وهذه الصحيفة، فأدعو لك بالعودة الى الحرية. وادعو للوطن العربي الكبير بسجون فيها بطانيات.