حلقة أخرى في مسلسل الحرب على الوفاق

TT

فينسنت باتل، السفير الاميركي في العاصمة اللبنانية بيروت، يُعدّ اليوم احد اقوى الشخصيات حضوراً على مسرح السياسة اللبنانية. فهذا السفير الذي يعبّر اسمه (ترجمته بالعربية «Vincent منصور Battle معركة») عن روح «قتالية» غير مألوفة في عالم الدبلوماسية، يعيد بتصرفاته وتصريحاته الى الاذهان مسلك المفوضين السامين في مستعمرات امبراطور كان المفوض السامي يحل ويربط ويعيّن ويعزل.

المستر باتل، الذي يصول ويجول في مختلف المناطق ويشارك اللبنانيين كل مناسباتهم، ويطلق آراءه المجلجلة تقريباً في كل شاردة وواردة تتعلق بأوضاعهم محلياً واقليمياً، قطع في الاسبوع المنقضي شوطاً أحسب انه غير مسبوق في مجال الدبلوماسية ـ على الأقل مع الدول المفترض انها شبه مستقلة، وايضاً انها شبه ديمقراطية. إذ توجه الى وزارة الخارجية اللبنانية مطالباً لبنان بـ«الدعم والمشاركة في قوات الاستقرار» بالعراق، او «في حال تعذر ذلك إصدار تصريحات علنية تدعم الجهود الدولية المؤدية الى الاستقرار هناك»، وكذلك «استقبال وفود المجلس». (نص الخبر في «الشرق الأوسط» عدد الخميس 28/8/2003).

للإنصاف يجب القول، ان هذه الخطوة من المستر باتل ليست اجتهاداً شخصياً ولا هي مبادرة خصّت بها واشنطن لبنان المسكين دون غيره من بلاد الله الواسعة. فسياسة «لي الاذرع» التي تعتمدها الادارة الاميركية الجمهورية الحالية حيال موضوع «تثبيت الوضع الراهن» (اي الاحتلال) في العراق مطبقة اليوم على المجتمع الدولي بأسره. والضغوط المباشرة والتهديدات المبطنة تمارس على الجميع وباتجاه الجميع في عصر «المحافظين الجدد».

لكن مشكلة لبنان مع دبلوماسية «عصا غليظة» من هذا النوع، كما يدرك المستر باتل حتماً، أصعب من المشاكل التي قد تسبّبها لدول أخرى، وذلك لأسباب تتعلق بهشاشة الوضع اللبناني الداخلي، وتعقيدات تركيبته الفئوية، والدور الاسرائيلي التآمري المصرّ على استغلال تلك الهشاشة وهذه التعقيدات لتفجير لبنان من الداخل.

فـ«اللوبي الليكودي» في الولايات المتحدة ما كف يوماً عن التحريض والتخطيط والتوظيف المالي والسياسي في الابتزاز والضغط والتجييش ضد اي حالة وفاقية في لبنان. ومن يتابع نشاط هذا «اللوبي» وامتداداته في بعض اوساط اللبنانيين يدرك ان التآمر ماضٍ قدماً لغايات «ليكودية» آخر همها مصالح المواطن اللبناني العادي التواق الى الطمأنينة والاستقرار.

ولا أدري ما إذا كان في الأمر مصادفة، ام إرادة عليّة، أم هي مجرّد توارد خواطر في سياق هجمة لا تبقي ولا تذر على مهادني «الارهاب»، جاء الطلب الاميركي الى وزارة الخارجية اللبنانية خلال ساعات معدودة من تسريب وكالات انباء شائعات نقلاً عن «مصادر استخباراتية أميركية» مفادها ان اسلحة الدمار الشامل العراقية نقلت عبر سورية الى سهل البقاع بشرق لبنان، وانها محفوظة هناك في «معاقل حزب الله الحصينة» (!!!).

«مصادر استخباراتية» ... وهو ما يعني انه لا حاجة لدليل، وحتماً لا مجال لتقديمه.

و«عبر سورية» ...يعني الإمعان في ابتزاز دولة كانت حكومتها مناوئة أصلاً لحكم العراق السابق، وشاركت عام 1991 في تحالف عربي ودولي حاربه لإخراج جيشه من الكويت. غير ان جريمتها الأكبر تظل امتناعها عن توقيع صك استسلام لآرييل شارون.

و«معاقل حزب الله الحصينة» في سهل البقاع... تفصيل كاذب ضروري لتسهيل المضي قدماً في تضليل الرأي العام الاميركي والغربي، وصرف النظر عن انتهاكات الطيران الحربي الاسرائيلي لأجواء سهل البقاع ـ ولبنان كله ـ يومياً. بل، وإقدام إسرائيل على خطف مواطنين لبنانيين من هذه المنطقة بينهم الحاج مصطفى الديراني الذي اختطفته إسرائيل من قلب بلدته، التي يبدو انها وحدها لم تكن «حصينة» يومذاك.

انه التضليل نفسه، الذي جعل من جيش العراق عام 1991 «سادس أضخم جيش في العالم»، وأوهم الاميركيين والبريطانيين والأمم الآخرين ان بمقدور صدام حسين «تفعيل» ترسانة اسلحته المخيفة خلال 45 دقيقة، ...يا لطيف ألطف.

التضليل الذي يختلق ذلك «الغول» المخيف في مخيلة مئات الملايين من ابناء اميركا واوروبا ممن لا يعرفون شيئاً عن منطقة الشرق الادنى والاوسط. وبالتالي، يريح ضمائرهم الى ما تفعله تكنولوجياتهم التدميرية ببشرها وحجرها وزرعها وضرعها.

ولنعد الى المشهد اللبناني، وهشاشة وضعه السياسي. وبالذات الى انتخاب نيابي فرعي، كان المنطق وحده كفيلاً بأن يحول دونه. ففي دائرة قضائي عاليه ـ بعبدا (في قلب جبل لبنان) ارتأى البعض ان الظروف العامة مناسبة جداً لإعادة المواطنين الى مناخ الاصطفاف الطائفي والشحن الفئوي.

والحكاية، لمن لم يتابعها من غير اللبنانيين، ان سياسياً لبنانياً محترماً اسمه بيار حلو توفاه الله، فشغر بوفاته احد المقاعد المسيحية المارونية كان يحتله حلو في دائرة عاليه ـ بعبدا. والنائب والوزير الراحل كان قد اخترق القائمة الانتخابية التي كسبت معظم مقاعد هذه الدائرة في الانتخابات العامة عام 2000. ومثلت القائمة المنتصرة يومذاك تحالفاً ضم قيادات درزية ومسيحية وشيعية بينها الحزب التقدمي الاشتراكي وحزب الكتائب مع جماعات يسارية وليبرالية مختلفة، في وجه قائمة أخرى ضمت ايضاً قيادات درزية ومسيحية وشيعية بينها «حزب الله» ومناصري الوزير طلال ارسلان وحركة «أمل» وحزب «الوعد» (زعيمه الراحل الوزير السابق ايلي حبيقة).

أضف الى ذلك ان بيار حلو كان رئيساً سابقاً لـ«الرابطة المارونية» وابناً مخلصاً للنظام السياسي اللبناني ورجل تفاهم ووفاق لا غبار على اعتداله وانفتاحه.

وهكذا عندما توفي حلو فجأة، ظن خصمه السياسي النائب وليد جنبلاط زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي، ان من اللياقة الاعراب عن موقف متعفف عن الشقاق والمعارك، فقال ما معناه انه لا يمانع في ان يخلف بيار حلو ابنه الأكبر هنري ويكمل المدة المتبقية لوالده الراحل من عمر البرلمان. وأيد هذه البادرة عدد من الساسة العقلاء من مختلف الطوائف مدركين جيداً مدى خطورة افتعال شقاق وتحديات في منطقة مقسومة، تقريباً بالتساوي، بين الناخبين المسلمين والمسيحيين، وفي ظل الظرف الحالي بالذات.

ولكن فجأة تحوّلت هذه اللياقة في نظر البعض الى تحدٍ ومحاولة «فرض تزكية» وتكريس للوراثة السياسية وسعي جنبلاط للهيمنة على القرار المسيحي (!). وعليه اختار هؤلاء خوض معركة لـ«منع فرض التزكية» و«ضرب الوراثة السياسية». والطريف في هذه المجال بالذات ان بين الساسة القلائل، الذين حضروا المؤتمر الصحافي حيث اعلن المرشح حكمت ديب ترشحه ضد حلو، نائبين من دائرة كسروان ـ جبيل ...ورث احدهما مقعداً سبقه ابوه على شغله، أما الثاني فورث مقعده عن أبيه وأمه.

ايضاً في سياق تبرير فتح المعركة المزعومة ضد التزكية والوراثة السياسية، لم يخجل هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم «المعارضة الحقيقية» من تخوين كل من يخالفهم الرأي، ومن يجد ان معارك من هذا النوع مؤذية للاستقرار ومفضية الى استنهاض سيء للغرائز الطائفية في توقيت خطير. كما انه من المفارقات اللافتة، ان هؤلاء «المعارضين» (للجميع تقريباً) بنوا شرعية معارضتهم على رفض «اتفاق الطائف» الوفاقي، وها هم يصرّون على فتح المعارك في ظله.

وهم يزعمون انهم لا ينطلقون من موقع طائفي، في حين تقوم معظم حساباتهم الانتخابية على كيفية انتزاع الصوت المسيحي من قيادات المسيحيين التي آثرت تغليب لغة الحوار والوفاق على مغامرة التأجيج والانقسام وإيقاظ الفتن النائمة.