اغتيال الحكيم يضع العراق في مفترق الطرق

TT

استشهاد الإمام محمد باقر الحكيم يشكل نقلة نوعية بالغة الخطورة في الوضعية التي يعيشها العراق بعد انهيار النظام السابق. وليس هناك من يجرؤ على إيجاد مبرر لهذه الجريمة البشعة التي استشهد فيها عدد كبير من العراقيين، ولعل أصعب ما يمكن أن يواجهه الكاتب الوطني في ظروف كهذه هو محاولة فهم ما حدث لتصور ما يمكن أن يحدث، بالاعتماد على البصيرة قبل البصر، وعلى الاستنتاج عند صعوبة المعاينة، مجازفا بسخط الذين هزتهم المأساة.

كان حجم الحكيم يمثل وحده حجم بقية المجلس الذي وضعته الإدارة الأمريكية في الواجهة السياسية لتحكم باسمه في المرحلة الجديدة، وكان من أشد عناصر المعارضة العراقية وطنية وصلابة وبعد نظر، وهدمت معارضته للرئيس العراقي السابق مقولة أن شيعة العراق سيقفون كلهم معه في الصراع مع الجار الإيراني، انطلاقا من أن العربي يتضامن دائما مع العربي ضد غير العربي. وكان موقفه دليلا على أن الرابطة الإسلامية أقوى من النعرة العرقية، وهكذا كان نضاله ضد صدام طوال نحو ربع قرن نضالا يتسم بالمصداقية، حيث احتفظ في تعاونه مع إيران إلى حد معتبر بحرية القرار ومساحة المناورة.

وأيا كانت نقاط الاختلاف مع توجهاته أو عناصر التحفظ على منطلقاته فقد كان يحظى باحترام كبير يعكس النفوذ الذي يتمتع به في الأوساط الشيعية، بل وفي أوساط أخرى منها من كان يخشى من تزايد شعبيته، وهكذا راح، منذ سقوط النظام، يواصل عملية التعبئة الجماهيرية لبناء العراق الجديد، بعيدا عن أسلوب الاستعداء الرخيص الذي لجأت له بعض الأطراف، فلم يعرف عنه أنه تطاول على بلد عربي أو قيادة شقيقة، ولم يسجل عنه انبطاح أمام الحليف الأمريكي، بل ركز هجومه على النظام السابق وحمّل المحتل مسؤولية حماية الأمن وتحقيق الاستقرار الذي سوف يُمكن العراقيين من اجتياز النفق نحو مستقبل آمن ومزدهر. كما أنه لم يحاول تشويه المقاومة بالقول انها مجرد عمليات إجرامية تقوم بها فلول النظام السابق، كما كان البعض يردد، بل تحدث عنها بتفهم من يريد أن يحتفظ بكل الأوراق في يده لمواجهة المحتلين، كما كان يسميهم، مفضلا اعتبار المقاومة المسلحة كعملية الكي التي يلجأ لها الطبيب إذا عز شفاء المريض.

ولا بد هنا من التذكير بأن الفترة التي تلت سقوط النظام تميزت بعمليات مقاومة متفاوتة القوة استهدفت القوى الغازية، اعتمدت أساسا استعمال الأسلحة الخفيفة وراجمات الصواريخ المحمولة على الكتف والألغام الصغيرة، وتصاعدت العمليات في الأسابيع الأخيرة إلى درجة أزعجت القوات المحتلة، وهنا بدأت الساحة تعرف عمليات من نوع جديد تميز بالطابع الإجرامي الذي استهدف المدنيين العراقيين، وشمل حالات خطف، واغتصابا للنساء، وتصفية حسابات شخصية، وجرائم نهب وسلب لم تعد محصورة في المناطق المعزولة.

ومع تزايد عدد الأكياس البلاستيكية التي تنقلها الطائرات العسكرية الأمريكية من العراق في صمت، عرفت بغداد عملية أثارت تساؤلات كثيرة، لأنها كانت الأولى من نوعها، ثم صمتت التساؤلات فجأة، فكان الصمت أقوى ضجيجا من الحادث نفسه، الذي أدى إلى تفجير السفارة الأردنية، وذلك في اليوم التالي لوصول ابنتي الرئيس العراقي السابق إلى عمّان. ثم جاءت العملية الثانية بنفس الأسلوب واستهدفت ممثلية الأمم المتحدة في بغداد، لتنهي حياة الرجل الذي كان يطالب بدور أكبر للأمم المتحدة، يتجاوز دور الرعاية الإنسانية المحصور في توزيع الكساء على النساء والحليب للأطفال. وليس سرّا أن سيرجيو دو ميللو كان يشكل عنصر إزعاج لكل الذين أعدوا مخططاتهم لتحويل العراق إلى قاعدة رئيسية للوجود الأمريكي في الشرق الأوسط، لتتكامل مع الوجود الإسرائيلي في تنفيذ مخطط رسم منذ عقود وعقود، ولكل الذين رسموا خطط المستقبل على أساس تسلق الوجود الأمريكي. ويأتي اغتيال آية الله محمد باقر الحكيم بنفس الأسلوب، ولكن ببشاعة أشد، ليشير إلى العامل الجديد الذي بدأ يفرض وجوده على الساحة العراقية، ويبرر ارتفاع أصوات كثيرة تنادي بأن تترك قوات الاحتلال للعراقيين أنفسهم مهمة القيام بعمليات الأمن الداخلي، وهي قضية بالغة الأهمية، قد تتجاوز خلفياتها حقيقة الأمر نفسه.

وهناك ملاحظات قد تكون لها أهميتها في تحليل الوضعية. فالإمام كان محكوما عليه بالإعدام منذ ربع قرن تقريبا، وكان له دور أساسي في تشكيل المجلس الأعلى للمقاومة الإسلامية، الذي تحالف مع الولايات المتحدة بهدف واضح محدد هو إنهاء النظام السابق، ولكنه كان أكثر استقلالية من كثيرين تحالفوا مع واشنطن وتحولوا إلى ملكيين أكثر من الملك.

ومنذ سقوط بغداد بدا واضحا أن التيار الإسلامي هو التيار السائد على الساحة، ولدرجة أن البعض أخذ يتحدث بمرارة عن حلول الدكتاتورية «الثيوقراطية» محل الدكتاتورية العلمانية، وارتفعت أصوات كثيرة تطالب بتحجيم الاتجاهات الدينية، لكن رجال الشيعة والسنة في العراق أدركوا أن المذهبين جناحان لطائر واحد، هو الإسلام الذي يتعرض لتهديد حقيقي منذ 2001.

ومع تصاعد عمليات المقاومة، بدأ البيت الأبيض يردد أن العراق هو بؤرة الإرهاب في الشرق الأوسط، مع تجاهل تام لما تقوم به إسرائيل في الأرض المحتلة، وراحت واشنطن ترفع لواء جان دارك لتخفي رداء المجدلية.

ومنذ أيام بدأت الولايات المتحدة تشن حملة شرسة ضد قناة «العربية»، بحجة أنها نشرت تسجيلات لأفراد يهددون بالموت أعضاء المجلس الانتقالي، وهي تهديدات كان يمكن أن تمر بدون ضجيج، خصوصا أن مَن وراءها غير معروفين وجودا أو تأثيرا أو مقدرة على القيام بعمل محكم التدبير. وأعطى الضجيج المفتعل نتائجه يوم الجمعة الحزين.

في موازاة هذا كله، وبعد قيام المجلس الانتقالي باختيار رئاسة كادت تكون صورية، قام بتكوين حكومة بدون رئيس لأنه لم يتفق على رئيس، ثم ألغى وزارة الشؤون الدينية لأنه لم يتفق على مذهب الوزير الذي سيعهد له بتلك الوزارة، هل يكون شيعياً أم سنياً.

وتحولت المأساة إلى مهزلة، ولعل قيادات بدأت تعيد النظر في تحالفاتها المحلية، وربما رأت في بعض المحسوبين عليها عبئا يعقد حركتها المستقبلية.

وتتزايد مطالبة فصائل عراقية بحقها في الإشراف على القضايا الأمنية، ويرتفع شعار: «أهل مكة أدرى بشعابها»، وهو ما يمكن أن يتطلب وقفة سريعة.

فعندما فتحت مكة، أمر النبي عليه الصلاة والسلام من ينادي في الناس: «من دخل الكعبة فهو آمن ومن أغلق عليه باب بيته فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن». وظن كثيرون أن الأمر كان تخييرا لأهل مكة، في حين أنني ممن يرون أن القضية كانت استفتاء أمر به من لا ينطق عن الهوى. فالذين سيختارون المسجد الحرام هم مؤمنون كانوا يكتمون إيمانهم خشية التنكيل بهم، أما من سيختارون البقاء في بيوتهم فهم قوم ينتظرون اتضاح الأمور ليختاروا الجانب المنتصر، أما من سيختارون دار أبي سفيان فهم قوم ما زالت في نفوسهم بقايا الجاهلية وعصبيتها. وأترك الاستنتاج للقارئ.

وهكذا، فأن الحكومة التي تمثل شعب العراق بانبثاقها من انتخابات شفافة وديموقراطية هي وحدها المؤهلة لإدارة كل شؤون العراق، سياسية واقتصادية وأمنية. وفي انتظار ذلك تبقى إدارة الاحتلال هي المسؤولة الوحيدة عن ضمان الأمن، وهو ما قاله محمد باقر الحكيم، وما يبرر مطالبة البعض بتولي الأمم المتحدة مسؤولية الإدارة المؤقتة والحماية، حتى ولو لم تنسحب القوات المحتلة كلية، ولكن بشرط أن يكون القرار أمميا. ولعل هذا مما يفسر المأزق الذي توجد فيه قوات الاحتلال، لأن تنازلها عن مسؤولية الأمن لبعض حلفائها قد يؤدي إلى حدوث تصفيات رهيبة، تصاعدت التهديدات بها منذ عدة أسابيع، وجرى تنفيذ بعضها. وليس هناك من يتصور أن واشنطن مستعدة لإجهاض مشاريعها المستقبلية في المنطقة، لمجرد ارضاء حلفاء تحركهم شهوة الانتقام، لأنها علة الوجود ومبرر المكانة. ويبقى الرهان الأكبر على وعي شعب العراق.

[email protected]