امتحان المصداقية الأميركية

TT

بين حساب الحقل (دخول قلوب العراقيين بلا استئذان) وحساب البيدر (التحول الى قوة شرطة بلدية) مسافة طويلة قطعتها القوات الاميركية ـ البريطانية في العراق بسرعة مذهلة.

قد يقال ان من اعيا الحجاج بن يوسف يسهل عليه ارباك جورج بوش وتوني بلير. ولكن وتيرة تتابع اعمال العنف وطريقة توزع مواقعها الجغرافية اضافة الى تنوع اهدافها من عسكرية الى اقتصادية الى طائفية بدأت توحي بان ثمة لاعبا خفيا يمسك بحبال العمليات الامنية في العراق (وان كان من المبالغة تسميتها بالمقاومة) ويتلاعب باعصاب جنود الاحتلال.. وعبرها بالرأي العام الاميركي والبريطاني في الداخل.

مع ذلك تبدو مغامرة الاحتلال وكأنها لا تزال في بدايتها فالعاصمتان الاميركية والبريطانية لا تزالان تمنيان النفس بتحول شعبي «نفسي» لصالح ما تسميانه «بالوجود العسكري» لقواتهما في العراق. فيما مشاعر الاحباط الشعبية حيال هذا «الوجود» تزداد اتساعا وبموازاتها تتآكل، يوما اثر يوم، منة الاحتلال اليتيمة: تخليص العراقيين من دكتاتورية صدام وبعثه.

باستثناء هذا الانجاز العسكري، اي وعد حققته القوات الاميركية ـ البريطانية منذ دخلت العراق؟

حتى على صعيدي الجدارة والعملانية لم يسجل الاميركيون بعد انجازا يذكر، فشوارع بغداد ما زالت غير آمنة، والخدمات الحياتية العادية ـ من كهرباء ومياه ـ غير متوفرة ومعظم الرواتب المستحقة غير مدفوعة.

وفي غضون ذلك تتدهور العلاقات الكردية ـ التركمانية في الشمال وتترسخ بوادر النقمة الشيعية في الجنوب ويتحول مقاومو الاحتلال الى «ارهابيين» ويقترب الخطاب الاحتلالي الاميركي من الخطاب الاسرائيلي في فلسطين.

وللآن لم يجد الاميركيون ثمة حاجة لتحديد موعد ما لتسليم ادارة البلاد الى ابنائها ولا يبدو انهم في وارد التخلي عن الادارة المباشرة للشأن اليومي فيها وان ادى ذلك الى غرقهم بالتفاصيل السطحية على حساب الاساسيات القومية للعراقيين.

وعلى الصعيد الامني يتحول الاحتلال الاميركي للعراق الى عامل جذب مغر لكل من يحمل ضغينة على السياسة الاميركية في العالم الاسلامي باكمله، ولكل من بدأ يعتبر ان طريق «الجهاد» تمر الآن عبر العراق، تماما كما كانت تمر عبر افغانستان ابان الاحتلال السوفياتي لها.

بأي منظور موضوعي يبدو الاحتلال الاميركي للعراق عاجزا عن حكم البلاد بمفرده والعمليات الامنية اليومية التي يواجهها توحي انه بات في سباق مع استحقاقين:

ـ استحقاق نقل السلطة ديمقراطيا الى الشعب العراقي.

ـ او استحقاق تحول المواجهات الامنية الى مقاومة منظمة.

تجربة الاحتلال تمر بمنعطف دقيق، وفي هذا المنعطف لم تعد المكابرة سياسة يعتد بها. وقد تكمن الطريقة الاسلم لحفظ ماء وجه الاحتلال في عودة واشنطن، نصا وروحا، وباسرع فرصة متاحة الى الهدف الاول الذي حددته بنفسها لعمليتها العسكرية، قبل بدء حرب العراق: اعادة الديمقراطية المفقودة الى بغداد قبل ان تبدأ الدبلوماسية الاميركية بفقدان كامل مصداقيتها الدولية.. فما يحدث في العراق اليوم ليس معركة استقلال العراق فحسب بل امتحان مصداقية الولايات المتحدة ايضا.