إنه خلاف سياسي وليس خلافا بين أفراد

TT

هناك ميل لتصوير الخلافات الفلسطينية على أنها خلافات شخصية. ليس هناك خطأ أفدح من هذا الخطأ في فهم الوضع الفلسطيني وتقلباته. وما يبدو أنه خلاف بين الأشخاص في القيادة الفلسطينية، هو خلاف سياسي. خلاف حول الاستراتيجيا. خلاف حول الهدف الوطني. وهذا خلاف مشروع بين القادة، وهو يجد صداه دائما بين صفوف المناضلين، وتنخرط فيه حتى قطاعات واسعة من الشعب يهمها هدفها الوطني ومصيره.

منبع هذا الخلاف هو السياسة الأميركية، وهو الرئيس جورج بوش بالذات. بدأ الأمر يوم انتخابه قبل عامين، إذ أعلن حينها أنه لا يثق بالرئيس عرفات، وأنه لا يحب التعامل معه، فرفض أن يستقبله، ورفض أن يلتقيه، ورفض حتى أن يصافحه في ممرات الأمم المتحدة. ولنتذكر أن ذلك كان بعد فشل قمة كامب ديفيد مع بيل كلينتون وإيهود باراك، وبعد رفض عرفات للمشروع الإسرائيلي لقيام دولة فلسطينية يقتطع منها 25% من أراضي الضفة الغربية، وتقتطع منها مدينة القدس والمسجد الأقصى، ويتم بيع قضية اللاجئين، ثم تكون هذه الدولة بعد ذلك كله من دون سيادة، إذ تتحكم إسرائيل في معابر الدخول والخروج منها. كان الرئيس بوش يريد أن يقول لياسر عرفات، إن الولايات المتحدة لن تتعامل مع رجل يقول لرئيسها (لا). ودفع عرفات بذلك ثمن تجرئه على قول هذه الكلمة حفاظا على القضية الفلسطينية وأهدافها الأساسية. ولنتذكر أيضا أن بوش اتخذ هذا الموقف ضد عرفات، قبل الإعلان عن «رؤية بوش» للدولة الفلسطينية، وقبل الإعلان عن خطة «خارطة الطريق»، وقبل اتساع نطاق العمليات الانتحارية، أي قبل كل هذه القضايا التي هي جزء من الخلاف السياسي الدائر الآن، والذي يظن البعض حسب مظاهره الخارجية أنه خلاف بين الأفراد.

ثم جاءت مرحلة أخرى حاسمة، بعد أن وقع حادث 11 /9 /2001 في نيويورك وواشنطن، واندفع صقور الإدارة الأميركية بعد هذا الحادث الذي استنفر الوطنية الأميركية، نحو وضع الاستراتيجية (الامبراطورية)، والتي تكاملت صياغتها على مدى عشرين عاما، موضع التطبيق. وكان من تجليات هذه الاستراتيجية: نظرية الحرب الاستباقية، وغزو أفغانستان، واحتلال العراق، وإدراج نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي في قائمة الإرهاب. وعند هذه النقطة رفعت الإدارة الأميركية من درجة تحالفها مع إسرائيل، واعتبرت كل أعمالها القمعية للشعب الفلسطيني عمليات دفاع مشروعة عن النفس. وازدادت في هذا السياق الحملة الأميركية ضد القيادة الفلسطينية، وتحول الهدف من ضغط لتغيير الموقف إلى ضغط لتغيير القيادة نفسها، فأقدمت إسرائيل على محاصرة عرفات في مقر قيادته، مع تهديدات متواصلة له بالإبعاد أو القتل.

عند احتلال العراق وبعده، أعلن صقور الإدارة الأميركية أنهم يريدون إنشاء ديمقراطية في العراق، وأنهم يريدون لهذه الديمقراطية أن تكون منبرا لتغيير النظم والقيادات في كل الدول المحيطة بالعراق، وهكذا بدأت حملات ضغط منظمة على هذه الدول، واصبح الضغط لتغيير القيادة الفلسطينية جزءا من هذا المخطط الأميركي الواسع. تغيير من دون أن تكون هناك وعود بإنجازات معينة لصالح الشعب الفلسطيني، ومن دون أن تكون هناك وعود بإزالة كابوس الاحتلال الإسرائيلي، وكان جل ما هو معروض على الفلسطينيين أن يقبلوا بالسيطرة الإسرائيلية عليهم، مقابل تحسين أحوالهم المعيشية بمساعدات يتلقونها، وكأن الشعب الفلسطيني قطيع غنم ينتظر العلف فحسب.

عارض الجميع في هذا السياق المطلب الأميركي بتغيير القيادة الفلسطينية المنتخبة، إلى أن بدأت تظهر في الساحة ظواهر لافتة:

ـ مجموعات من المثقفين، ومن بعض كوادر الفصائل، تدين الانتفاضة الفلسطينية، وتعتبر عسكرة الانتفاضة شرا يصيب القضية الفلسطينية شرا ويصيب الفلسطينيين بالضرر.

ـ مجموعات من السياسيين والباحثين، تروج لضرورة التنازل الفلسطيني عن حق العودة، وتبشر بحل لمشكلة الأراضي التي احتلت عام 1967، واعتبار ذلك حلا للقضية الفلسطينية الأصل.

ـ مجموعات من السياسيين والمحللين تدعو عرفات إلى التنازل عن صلاحياته لمسؤولين آخرين، على أمل أن يقبل هؤلاء المسؤولون الجدد ما سبق لعرفات أن رفضه.

ومع الزمن، بدأت هذه المجموعات تشكل بالتحليلات التي تتبناها، وجهة نظر سياسية تلتقي مع وجهات نظر السياسة الأميركية، وترتاح إليها وجهات نظر السياسة الإسرائيلية. وبدأ يتبلور في الساحة الفلسطينية تياران سياسيان يختلفان حول الأهداف الفلسطينية، وحول القضية الوطنية الفلسطينية. وهنا بدأ الصراع يتخذ لونا آخر، وبدأ موضوع الأفراد يتخذ وزنا آخر، وأصبح الإمساك بمفاتيح القرار السياسي أمرا مهما للغاية. وأصبحت هناك مشكلة سياسية وطنية داخل قيادة حركة فتح، ومشكلة سياسية وطنية داخل الحكومة الفلسطينية، ومشكلة سياسية وطنية بين السلطة من جهة وبين الفصائل الفدائية المقاتلة من جهة أخرى، وامتد التوتر والقلق إلى أوساط اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان وأوروبا وأميركا، وانعقد في لندن مؤتمر للتنسيق بين الهيئات الفلسطينية المدافعة عن حق العودة. وبدأ الانشقاق يهدد حركة فتح للمرة الأولى، وهي الحركة التي لا يمكن أن تنشق، بسبب نوعية تكوينها، إلا حول القضية الوطنية وحدها. (راجع مقالنا في «الشرق الأوسط» بتاريخ ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ وهو بعنوان هل تنشق حركة فتح؟).

أما على الصعيد الداخلي، وبعد أن تم استحداث منصب رئيس وزراء تولاه محمود عباس (ابو مازن)، فقد تحول موضوع الصراع السياسي من مبادئ عامة إلى خطوات تطبيقية. اصبح المطلوب من حكومة ابو مازن إسرائيليا، أن تنظم حربا أهلية فلسطينية تحت ستار ضرب «الإرهاب الفلسطيني»، وجرى استخفاف إسرائيلي فادح بالهدنة التي تمكن من الوصول إليها مع الفصائل الفدائية المقاتلة. وبالمقابل حجبت إسرائيل المستحقات المالية الفلسطينية عن حكومة أبو مازن لفترة طويلة، وواصلت سياسة اقتحام المدن وارتكاب المجازر فيها، وعادت إلى سياسة اغتيال الكوادر بوتيرة سريعة. اي أن إسرائيل قامت بكل ما من شأنه أن يعرقل عمل وزارة أبو مازن ويدفع بها نحو الفشل.

هذه هي الملامح العامة للصورة السياسية القائمة حول القيادة الفلسطينية، وهناك خلاف واضح وعميق حول كيفية التعامل مع هذه الصورة، ولا أريد هنا أن أتطرق للأفراد والأسماء، إنما أريد أن أشير إلى أمرين:

الأمر الأول: إنه ليس صحيحا أن عرفات رفض تقديم التنازلات، أو اصر على التمسك بصلاحياته، أو تصرف بفردية مفرطة حسب الوصف الشائع أكثر من غيره. لقد وافق عرفات على تغيير القانون الفلسطيني من أجل استحداث منصب رئيس الوزراء، وتسليم هذا المنصب إلى محمود عباس، متنازلا بذلك عن جزء كبير من صلاحياته. ووافق على تحويل كل مشاريع السلطة الاستثمارية التي كانت تحت إشرافه لتصبح تحت إشراف وزير المالية سلام فياض. وقام بتشكيل مجلس للأمن القومي، لتصبح مسؤولية الإشراف على الأمن مسؤولية جماعية، وليست مسؤوليته هو وحده.

الأمر الثاني: ان محمود عباس تصرف في الأمور الأساسية حتى الآن، بمسؤولية سياسية تسجل له. ففي الموضوع الأمني وافق (أثناء الوساطة المصرية) على التشاور مع عرفات قبل اتخاذ أي قرار أساسي. وفي موضوع المواجهة مع الفصائل أعلن أنه لن يقبل نهج هدر الدم. وشكل هذان الموقفان (حتى الآن) ضمانة التعايش والتوازن.

ولكن ما يخشى منه جديا، أن يختل توازن هذه المعادلة التي يشكل عرفات وعباس طرفيها، من خلال إجراء يتخذ هنا أو هناك، فيدفع بالمعادلة نحو الانحياز إلى المخطط الذي يهدد الموقف الوطني.

إن من يقبل التهديد الأميركي بأن عرفات ليس طرفا في المعادلة السياسية (ردا على دعوة عرفات للفصائل بالتزام الهدنة). ومن يقبل التهديد الإسرائيلي بأن إسرائيل لن تتعامل مع وزارة يشكلها شخص قريب من عرفات (وكأن إسرائيل تريد أن ترى في ابو مازن شخصا بعيدا عن عرفات). ومن يقبل بضرب الجمعيات الخيرية التي ترعى عائلات الشهداء والأسرى، ثم يجمد أرصدتها المالية، تقليدا للموقف الأميركي.. إن من يقبل شيئا من هذا، يجر توازن معادلة السياسة الفلسطينية نحو الخلل، وعنها يبدأ الانقسام الذي لا يريده أحد. إنقسام سياسي وليس انقساما بين أفراد. انقسام خطر.