إيران في طريقها إلى المجهول

TT

على عتبة الفوضى تقف ايران اليوم. دفعت الى هذا المكان الصعب. كل الجوار تقريبا، تطل منه فوهات البنادق الاميركية، ابتداء من افغانستان مرورا بباكستان والصعود مرة اخرى عبر الخليج العربي، من قطر حتى الكويت والعراق تركيا ثم اذربيجان شمالا.

الولايات المتحدة تختزل في ذاكرتها أزمة الرهائن التي امتدت 444 يوما عام 1979، في السفارة الأمريكية بطهران. حادثة السفينة

Karine- Aالتي نقلت اسلحة للسلطة الفلسطينية في ديسمبر 2001 ،كما ادعت اسرائيل. واتهام واشنطن طهران ايواء اعضاء من تنظيم القاعدة، ودعمها لحزب الله في لبنان. بالاضافة الى توجسها من دور يمكن ان تلعبه لتأليب الشيعة في العراق ضد الوجود الامريكي. اخيرا محاولة تطوير اسلحة نووية.

لم تحتمل طاولة المفاوضات، التي جمعت الطرفين، ثقل كل هذه الملفات، فانفض الاجتماع الذي عقد في جنيف، مؤخرا، على هامش لقاء مجموعة «6+2» الخاصة بافغانستان (السته: دول الجوار لافغانستان + الاثنين: امريكا وروسيا) التي انبثقت عن الامم المتحدة منذ سنوات. ايران الباحثة عن طريقة لخفض حدة التوتر في علاقاتها مع الولايات المتحدة، لا تقابل بنفس النوايا، خاصة من فريق الصقور في الادارة الحالية. فهي ما تزال، رسميا، جزءا من «محور الشر» الذي اعلنه الرئيس بوش الابن، كما مددت العقوبات المفروضة عليها في قطاعي النفط والغاز الحيويين، هذا رغم التعاون الكامل الذي اظهرته طهران في الحرب على الارهاب، زد على ذلك، اعلانها الحياد عشية بدء الحرب على العراق.

لا يغيب عن طهران بعد كل هذه المعطيات ان الامور ستزداد سوءاً لو اعيد انتخاب الرئيس بوش العام القادم. ووقوع المواجهة العسكرية سيكون حتميا. وفي محاولة تجنبها، كثفت الحكومة بحثها عن الشراكة مع عدد كبير من الدول من اجل مصالح مشتركة ذات طابع انساني، لتشكل، في نهاية المطاف، توافقا عاما يكفي لمواجهة أي اعتداء اميركي محتمل. واطلق على هذه السياسة «حوار الحضارات» التي يتبناها الرئيس خاتمي شخصيا .

مصدر قلق آخر لطهران، هو الخلاف الناشب بينها وبين الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الذي يتوقع حسمه يوم الاثنين القادم 8 سبتمبر الجاري، في اجتماع يعقده مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، من جهة قبول طهران التعاون مع الوكالة او احالة الملف برمته لمجلس الامن لوضعه في مكان الملف العراقي الشاغر، والتعاطي معه بكيفية متسقة مع الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة بكل ابعاده العسكرية ذات الطابع الدولي.

لتثبت تعاونها، على طهران اولا، توقيع البروتوكول الاضافي الملحق بنظام ضمانات الوكالة الذي سبق ان وقعته. وقد ابدت استعدادها التوقيع على البروتوكول بموجب رسالة رسمية معلنه وجهت الى مدير عام الوكالة د. محمد البرادعي، الذي ما برح يؤكد على ضرورة قيامها بذلك قبل فوات الاوان. البروتوكول الاضافي يتيح لمفتشي الوكالة حرية مطلقة في الحركة في كافة المواقع داخل ايران، وهذا ما تصفه الاخيرة بـ«انتهاك للاسرار العسكرية»، وتزيد بان برنامجها النووي «مخصص لتوليد الكهرباء، ويستخدم في الاغراض السلمية». في المقابل كشفت الوكالة عن وجود جسيمات من اليورانيوم الشديد الاثراء، في العينات التي اخذتها من «المصائد الكيميائية» في مصنع ناتانز، لاثراء الوقود

(وسط البلاد). تطالب ايضا، السماح لها بأخذ عينات من ورشة شركة قالاي الكهربائية في العاصمة طهران. وأكد السيد اغا زاده (نائب رئيس الجمهورية ورئيس هيئة الطاقة الذرية) مؤخرا، «ان حكومة بلاده لم تناقش امر انسحابها من معاهدة حظر الانتشار». ان مجرد طرح المبدأ يسوقنا تلقائيا الى التمعن في التجربة الكورية الشمالية وما سببته من خوف وارتباك للعالم بعد انسحابها من المعاهدة المذكورة، واتقانها بمهارة فائقة، ممارسة سياسة الابتزاز النووي.

في هذا الخضم، يتقد الداخل سخونة تصل، احيانا، الى درجة الغليان. نظام سياسي فريد من نوعه يتسم بالغموض. مؤسسات عليا منتخبة: مجلس الخبراء، رئيس الجمهورية ومجلس الشورى. فوقها مؤسسات غير منتخبة: المجلس الاعلى للامن القومي، مجلس تشخيص مصلحة النظام، رئيس القضاء، ومجلس صيانة الدستور. والاهم، المرشد بسلطة مطلقة من كل عقال، تحت امرته ايضا، القوات المسلحة. المرشد علي خامئني، يستمد شرعيته من مفهوم شيعي دارج يطلق عليه اصطلاحا «ولاية الفقيه». بموجبه يختار كل مؤمن من يراه مؤهلا لتولي السلطة الدينية، ويتم اختياره من بين كبار علماء الدين الأحياء، على ان يكون اغزرهم علما واكثرهم تقوى. اتسع نطاق هذا المذهب ليشمل المجال السياسي، بعد ان تبناه الزعيم الخميني وجعله جزءا اساسيا من دروسه في قم. هذا المفهوم زاد التصدعات في جدار السلطة الهش، منذ انتقاد نائب الخميني، حسين منتظري، ممارسات النظام ودور الفقيه، مما دفع الخميني الى عزله، رغم وصفه له «ثمرة حياتي». منذ ذلك الحين وحتى الان، اصبح ملهم «الاصلاحيين»، الذين يتزعمهم الرئيس خاتمي. من اهم الشخصيات السياسية جلال الدين طاهري (من مؤيدي منتظري) قدم استقالته العام الماضي، كإمام لصلاة الجمعة في ثاني اكبر المدن، اصفهان، متهما السلطات بالفساد والانحراف عن طريق الدين الصحيح. الجهاز القضائي الذي يسيطر عليه المحافظون، واصل ازاحة المؤيدين لخاتمي من مناصبهم، وحظر الصحف المتعاطفة معه، وحبس عددا من مؤيديه. دفعت هذه الاحداث الإصلاحيين، خاصة فئة الشباب الذين يشكلون غالبية السكان، الى مطالبة النظام الإسراع بإحداث تغييرات لخلق تنمية فعلية في البلاد، تحد من ارتفاع البطالة ومعدلات التضخم التي أنهكت الشعب، الذي بلغ دخل نصفه شهريا 50 دولارا لا تسد الرمق. ومع الزيادة المتسارعة لعدد السكان، وبروز المجموعات الاثنية التي تطالب بحقوقها وحتى باستقلالها (اكراد، اذريون، عرب وبلوش)، وكما هو معروف، فان الثورات تحدث عادة عندما تبدأ الطبقات المسحوقه برفض الفتات المتاح لها. في المقابل تعجز السلطة في السيطرة. ان ايران تقترب من هذا التقاطع، وسبق ان حدث ذلك في نفس البلد وكان الضحية الشاه. ان ثورة ضد رجال الدين المحافظين، وضد الخوف القادم من الخارج، صار حدوثها ممكنا في ايران قريبا.

* كاتب سعودي