مصير النظام العربي بين فلسطين والعراق

TT

ثمة خلط بين مفهوم النظام السياسي Political System والنظام الاقليمي Regional System في اوساط عربية مختلفة. فالحديث عن النظام الاقليمي العربي، او اختصارا النظام العربي، يعني الحديث عن نمط العلاقات العربية ـ العربية شعبيا ورسميا. انه يختلف عن النظم السياسية العربية المؤسسة على وقائع دستورية او عرفية معينة.

على هذه الملاحظة، نجد ان النظام الاقليمي اليوم هو في حكم الانهيار. وعبثا نحاول تلطيف واقعه، بالادعاء انه يحمل امكانات النهوض. فالنهوض المنشود لا يتحقق بغير معطيات جديدة، داخلية وخارجية، تنعكس على واقع هذا النظام سياسيا وبنيويا. وما احداث فلسطين والعراق الدائرة حاليا الا تأكيد على مدى ارتباط واقع النظام العربي ومصيره بالملفين الفلسطيني والعراقي اللذين يجسدان الى حد بعيد طبيعة وتعقيدات العلاقات الدولية والاقليمية الراهنة.

كثيرة هي الشواهد على انهيار النظام الاقليمي العربي، وبخاصة مع حرب الخليج الثانية غداة الغزو العراقي للكويت وفشل جامعة الدول العربية في رد الغزو والزام العراق بسحب جيشه. بل يمكن القول ان تلك الحرب عمقت الانقسامات الشعبية العربية بصورة غير مسبوقة، حتى غدا الواقع العربي على المستويين الرسمي والشعبي مترديا ومدعاة للاحباط، ثم جاءت حرب الخليج الثالثة ـ بإرادة اميركية بالدرجة الاولى ـ تحت شعارات واهية: نزع اسلحة الدمار الشامل العراقية التي لم تكتشف الى اليوم (كذا)، واحلال الديمقراطية في العراق ضنا بالشعب العراقي المغلوب على امره، واذا كان النظام العراقي في السابق قد مثل مشهد انتهاك حقوق الانسان بكل معانيها، فإن الواقع الراهن في العراق لا ينبئ بسيادة الديمقراطية وحقوق الانسان مع تفشي فوضى عارمة على كافة المستويات.

ان التعمق في دراسة هاتين الحربين، ويمكن ان نضيف اليهما حرب الخليج الاولى (الحرب العراقية ـ الايرانية)، يكشف عن الهدف الشرق اوسطي الذي يقف وراءها اكثر من اي هدف آخر. فالمستهدف هو النظام العربي بشكل او بآخر من خلال احلال نظام بديل مكانه، نظام شرق اوسطي تكون اسرائيل فيه بمثابة المركز الفاعل الذي يجذب اليه مجموعة اطراف او هوامش. وحسبنا التوقف هنا عند مجموعة ظواهر:

1 ـ ربط الازمة العراقية الراهنة بتداعيات العلاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، سواء من خلال مفاوضات «خارطة الطريق» او غيرها، والتركيز على العلاقة الامنية المتبادلة بين فلسطين والعراق.

2 ـ الحديث عن استقرار العراق من خلال ترتيبات امنية اقليمية، وبرعاية اميركية. اما الاستقرار العراقي فهو في مجالات النفط والمياه وامن الافراد وضرورة اقامة علاقات مفتوحة بين العراق الجديد واسرائيل.

3 ـ وضع تصورات لشرق اوسط جديد كجزء من ترتيبات امنية اقليمية تمتد من وسط آسيا الى شمال افريقيا. وهذا معناه احياء لسياسات اميركية وغربية قديمة، مؤسسة على استراتيجيات جيوستراتيجية موضوعة بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي.

4 ـ زج الحكومات العربية بما يسمى استراتيجية مكافحة الارهاب، تحت دعاوى الامن الاقليمي والامن الدولي. واذا كانت مكافحة الارهاب هي مهمة عربية وعالمية في آن معا، وتفترض تعاونا دوليا شاملا، في هذا المضمار، الا ان التركيز على العنف الاسلامي والعربي أمر غير مبرر!.

5 ـ بروز تهديدات جديدة للدول العربية في كياناتها الجيوسياسية، اي انها تتجاوز مسألة النظم السياسية والحكومات القائمة. وان اعادة ترسيم الاوضاع الجيوسياسية الشرق اوسطية ـ كما جرى التداول في الكونغرس ـ مسألة لافتة، وهي على درجة عالية من الخطورة امام اندفاعة اليمين المحافظ الاميركي، الذي يمسك بقرارات الادارة الاميركية، ويكرس تحالفه مع اسرائيل بسياسات يومية ممتدة من تفاصيل «خارطة الطريق» الى مستقبل العراق ومصير النظام الاقليمي العربي.

في المقابل، تصعب مواجهة هذه الظواهر بالشعارات القومية او الاسلامية او الوطنية من دون مضمون اجتماعي واقتصادي وسياسي. اي مضمون متعلق بحقوق الانسان والديمقراطية والتنمية الشاملة، والنظام العربي في مجمل الاحوال هو صورة تعكس واقع الدول العربية بما لها وبما عليها. فلا يمكن الانتقال بهذا النظام من الواقع الاحتفالي في المناسبات الى الواقع المؤسسي المرجو اذا لم تتبلور ارادة سياسية عربية من خلال مؤسسات رسمية وشعبية معا. انها مؤسسات الدولة، ومؤسسات مجتمع مدني لا مجتمع عصبوي مأزوم بالطائفية والعشائرية والاقليمية الجهوية، مؤسسات منفتحة على العالم بما فيه من معارف وعلوم وثورات في الاتصالات والمواصلات الحديثة.

يتحدد الواقع المؤسسي المنشود من خلال معطيين اساسيين هما:

1 ـ تراكم معرفي قائم على خبرات طويلة منذ نشأة جامعة الدول العربية، وتبلور في وثائق موجودة ابرزها مشروع تعديل ميثاق الجامعة المنجز منذ العام 1982، ولا نغالي اذا قلنا ان المشكلة لم تكن يوما في غياب الوثائق والمشاريع، بل كانت وما تزال في غياب الارادة السياسية العربية فكيف تتحقق المتابعة؟

2 ـ نتائج الازمة العراقية والقضية الفلسطينية خاصة على صعيد الامن الاقليمي. ان ملف الامن في المنطقة العربية وعلى مستوى الشرق الاوسط صار مفتوحا، ولن يغلق قبل ان تتبلور صيغ عملية على الارض انطلاقا من العراق وفلسطين. انها صيغ مؤثرة في المحددات الجديدة للنظام العربي.

تجدر الاشارة الى ان هذا الواقع المؤسسي لن يتحدد تلقائيا. انه نتاج عوامل دولية واقليمية متشابكة. وبقدر ما يكون الفعل العربي موجودا على المستويين الرسمي والشعبي، بقدر ما تتمكن الدول العربية من تحديد نظام علاقاتها بعيدا من التبعية والتهميش، والمفارقة الكبرى في هذا الصدد، ان كافة الصيغ والمشاريع الشرق اوسطية المطروحة تتعامل مع الدول العربية كمجموعة فيما لم ترتق الحكومات العربية بعد الى مستوى العلاقات التكاملية بعيدا عن التنازع وتبادل الاتهامات.

* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية