إيران وبريطانيا: نهاية شهر عسل؟

TT

حتى اسابيع قليلة ماضية بدا أن ايران وبريطانيا، اللتين اكملتا شهر عسل دبلوماسياً، تتجهان نحو شراكة مبهجة للطرفين.

غير ان الحكومة البريطانية، التي استدعت سفيرها ريتشارد دالتون، اعلنت يوم الثلاثاء الماضي «الاغلاق المؤقت» لسفارتها في طهران، وجاء القرار بعد ساعات من اطلاق نار على مبنى السفارة الواقع وسط العاصمة الايرانية. وعندما تسأل السلطات الايرانية عمن يحتمل ان يكون مسؤولا تقول انها لا تعرف. ولكن هذا يبدو صعب التصديق ما دام مئات من الناس، بينهم أكثر من 12 من رجال الشرطة، يفترض أن بعضهم يحرس السفارة، كانوا يراقبون الحدث الغريب.

ومن الواضح ان الجمهورية الاسلامية كانت ترغب في توجيه «رسالة قوية» الى «انجلترا الغادرة»، وبالطريقة الوحيدة التي تعرفها على أفضل نحو.

لقد استثمرت حكومة توني بلير الكثير في التقرب والتودد الى رجال الدين الحاكمين في ايران. فقد قام وزير الخارجية جاك سترو بزيارة طهران اربع مرات خلال فترة تقل عن عامين، مماثلا بذلك سجل نظيره السوري فارق الشرع.

وحتى قبل تحرير بغداد اعلن كل من بلير وسترو ان بريطانيا لن تنضم الى الولايات المتحدة في اية خطوة «تغيير نظام» تتخذ ضد ايران وفي كل لقاءاته مع الرئيس جورج دبليو بوش كان بلير يكرر موضوعة «الحوار البناء» مع ايران كبديل عن «تغيير النظام».

وفي أواخر مارس (آذار) الماضي برزت بريطانيا باعتبارها الداعم الاكثر حماسا لايران في الاتحاد الاوروبي، مضطلعة بدور كانت تلعبه المانيا وفرنسا خلال ما يزيد على عقدين. وتولى البريطانيون تزعم الجهود الهادفة الى التوصل الى اتفاقية تجارية بين الاتحاد الاوروبي والجمهورية الاسلامية.

كما دعمت لندن توجه طهران للانضمام الى منظمة التجارة العالمية، على الرغم من تحفظات واشنطن، ووفرت حكومة بلير لطهران فرصة تنظيم معرض اقتصادي كبير في لندن لاجتذاب الاستثمارات البريطانية والغربية الأخرى، خصوصا في صناعة ايران النفطية التي تواجه ازمة في الوقت الحالي.

وتعززت العلاقات الى حد ان رجال الدين الحاكمين بدأوا المجيء الى لندن لاجراء الفحوصات الطبية، بينما راح آخرون يرسلون ابناءهم الى المدارس البريطانية.

وقد حصل بعض المتطرفين الخمينيين على بعثات للدراسة في جامعات بريطانية. وكان احد هؤلاء الطلاب هو الذي اصبح سببا في التوقف المفاجئ للود الانجلو ـ ايراني.

والرجل الذي نتحدث عنه هو هادي سليمانبور الذي كان قد التحق بجامعة درم لدراسة الحضارة الاسلامية.

ولم يكن سليمانبور، الذي هو الآن في أوائل اربعيناته، طالبا عاديا. فقد انضم الى الثورة الخمينية عندما كان يافعا، وكان من أوائل من التحقوا بفيلق الحرس الثوري الاسلامي، وهو قوة شبه عسكرية اسسها الخميني عام 1979 من أجل سحق خصومه.

وعمل سليمانبور كحارس شخصي لعدد من رجال الدين، وانتهى، أخيرا، الى كونه سفيرا للجمهورية الاسلامية في العاصمة الارجنتينية بوينس آيرس.

وتزامن توليه منصبه كسفير مع تفجير السفارة الاسرائيلية في بوينس آيرس، وهو هجوم حصد ارواح عشرات من الارجنتينيين بينهم عدد كبير من اليهود. وقد كانت ايران تنكر، على الدوام، اي تورط لها في الهجوم، وتلقي باللوم على ضباط الشرطة والجيش الارجنتيني المناصرين للنازية. وفي أواسط التسعينات بدا ان القضية وضعت على الرف، وسط تقارير تحدثت عن تلقي الرئيس الارجنتيني في ذلك الوقت كارلوس منعم رشوة كبيرة من طهران لتغطية الامور وطمسها (ويقول منعم إن هذا افتراء).

وفي العام الماضي اعادت محكمة ارجنتينية فتح ملف القضية، وانتهت الى توجيه اتهام رسمي الى طهران. واصدرت مذكرات اعتقال بحق عدد من المسؤولين الايرانيين، وبينهم سليمانبور سيئ الحظ، الذي كان قد وصل، لتوه، الى بريطانيا لبدء حياة جديدة كطالب متوسط العمر. واثر اتصال من جانب الانتربول قامت الشرطة البريطانية باعتقال سليمانبور بدون ابلاغ وزارة الخارجية في لندن.

وأدى ذلك الى ما يمكن وصفه باعتباره صداما بين ثقافات سياسية، ان لم يكن «صدام حضارات».

وببساطة لا يمكن لرجال الدين في طهران ان يفهموا ان الحكومة البريطانية قد تكون عاجزة، حقا عن اصدار امر الى الشرطة لاخلاء سبيل سليمانبور. وهم ينظرون الى الحدث باعتباره جزءا من مؤامرة «صهيونية ـ صليبية» تهدف الى تهيئة الرأي العام العالمي لمكيدة «تغيير نظام» الجمهورية الاسلامية.

ويعتبر غضب رجال الدين على بريطانيا مفهوما الى حد ما. وعلى اية حال، ففي مناسبات كثيرة تجاهلت دول الاتحاد الاوروبي قوانينها لتوفر للمشتبه فيهم الايرانيين فرص الافلات من الشرطة.

ففي عام 1996 اصدرت محكمة في برلين مذكرة اعتقال بحق علي فلاحيان، رجل الدين الذي كان وزير المخابرات والأمن في الجمهورية الاسلامية في حينه. وقد اتهم فلاحيان بالمشاركة في قتل اربعة معارضين اكراد في برلين عام 1992.

وفي الوقت الذي صدرت فيه مذكرة الاعتقال كان فلاحيان يقوم بزيارة الى المانيا بدعوة من نظيره برند شميدباور.

وما ان علمت السلطات الالمانية بالمذكرة رتبت امر عودة رجل الدين الى طهران قبل وصول الشرطة. بل ان الفرنسيين فعلوا ما هو احسن. ففي عام 1994 تجاهل رئيس الوزراء ادوارد بالادور طلبا سويسريا لتسليم ايرانيين كانا قد اتهما بارتكاب جرائم قتل سياسية في سويسرا، وساعدهما على العودة جوا الى طهران، وفي مقاعد الدرجة الاولى.

ويمكن ذكر حالات مماثلة تخص دولا اوروبية اخرى. ويعتقد رجال الدين ان القضايا السياسية الدولية غالبا ما تتألف من مكائد ومؤمرات، وان الغربيين في السلطة، المجردين من القيم الاخلاقية، مستعدون لبيع امهاتهم من اجل ضمان الارباح لرجال الاعمال، الذين يمولون في المقابل، الاحزاب السياسية.

وسليمابنور ليس المسؤول الايراني الكبير الوحيد الذي كان عرضة لمذكرة اعتقال من جانب الانتربول بتهم الارهاب. فآخر قوائم الايرانيين المطلوبين تضم 48 اسما، وبينهم «المرشد الأعلى» علي خامنئي والرئيس السابق علي اكبر هاشمي رفسنجاني، ووزير الخارجية السابق علي اكبر ولايتي. وفي يوم الاربعاء الماضي قررت الجمهورية الاسلامية حظر جميع الرحلات الى الخارج من جانب من تضم القائمة اسماءهم حتى اشعار آخر فهل تؤكد المشادة الاخيرة بين طهران ولندن رأي رجال الدين بالغرب؟

من المحزن انه يتعين على المرء الاجابة بالايجاب. ان الاتحاد الاوروبي، وليس الجمهورية الاسلامية، هو الذي يخلط القانون بالقضايا السياسية. وفي كل مرة كان فيها الأمر في مصلحتهم تجاهلت دول الاتحاد الاوروبي القانون باكثر الاشكال خسة. قبل ما يقرب من عقدين كان الخميني قد لخص سياسته تجاه القوى الغربية على النحو التالي: سدد لهم ضربة في الاسنان، وسيقبلون يدك!.