لئلا تقع (الفتنة الكبرى) بين سنة وشيعة

TT

قال كبيرهم ـ غداة الفاجعة المزلزلة ـ: «سنستخدم سلاح الفتنة بينهم».. وقال صهيوني بارز ـ وصفه مسؤول عربي سابق بأنه عبقري !! ـ وهذا الصهيوني هو (مارتن انديك) قال.. وهو يتناول الشأن العراقي بعد الحرب ـ: «من السذاجة والغباء ان نشغل انفسنا بقضايا الكهرباء والماء في العراق. فالمهمة العاجلة لاستقرارنا واستمرارنا هناك هي احياء القاعدة الاستعمارية القديمة: فرق تسد».

هكذا، بعلانية تامة يتحدثون عن (مخطط التمزيق) كاستراتيجية ثابتة لديهم تجاه العراق وغيره.. ومن هذا (الغير) ـ مثلا ـ: ما يجري في فلسطين. فالسلاح المستعمل ضد الفلسطينيين في الارض المحتلة هو: سلاح الفتنة والتمزيق الداخلي. فهم يحرشون السلطة بالفصائل الفلسطينية. ثم لم يلبثوا ان حرشوا بين اركان السلطة ذاتها: علانية كذلك. وهذا سلاح مدمر بلا ريب: اشد تدميراً من سلاح الاباتشي وامثاله. فحين تشتعل الفتنة بين السلطة والشعب من جهة، وبين أعمدة السلطة ذاتها من جهة اخرى، فإن مصائر القضية الفلسطينية تتعرض للأسوأ والأخطر والأشد فتكا وهلاكا في تاريخها كله.

ولنعد الى العراق لنقول: إنه من (تصغير) الأمور، ومن الاستخفاف بالعقول، بل مما يخدم مخطط الاشرار في ايقاد الفتنة: تصوير مقتل السيد محمد باقر الحكيم ـ رحمه الله ـ بأنه انهاء لحسابات بينية: بين شيعة وشيعة، او بين سنة وشيعة. فهذا التصوير او التكييف سارعت الى تنـزيله الى الساحة السياسية والامنية والاعلامية: قوى لا ينقصها الخبث، ولا الدهاء، ولا المكر الكبّار، ولا الخبرة العريقة في هذا الميدان. سارعت الى تنزيله وتسويقه بهدف إخفاء الهدف الأكبر عن العين والوعي.. والهدف الاكبر هو (اجهاض) تيار الاعتدال والتسامح والتعايش الذي كان الحكيم احد رموزه المتقبلة عند اهل السنة في العراق وسواه، وهو في هذا قريب من اتجاه السيد محمد باقر الصدر ـ رحمه الله ـ الذي تتلمذ خلق كثير من اهل السنة على كتبه التي اصبح بعضها مراجع مدرسية او تعليمية. مثلا: كنت اراجع كتابا مدرسيا مقررا على ابنتي في الدراسات الدينية في المرحلة الثانوية. وحين طالعت مراجع هذا الكتاب، وجدت من بينها كتاب (اقتصادنا) لمحمد باقر الصدر، بجوار كتاب (الاموال) لابي عبيد القاسم بن سلام.

نعم: الهدف الاكبر من اغتيال الحكيم هو اجهاض تيار الاعتدال والتعايش والتسامح.. وثمة هدف اخر كبير ايضا وهو (تخليق فتنة كبرى عاصفة في العراق) ـ تمزقه تمزيقا ـ وتصديرها الى الاقربين والابعدين من المسلمين.

وليس للولايات المتحدة الاصيلة او الحقيقية: مصلحة في ذلك. فتراثها السياسي والاجتماعي والكفاحي هو (تراث وحدوي). ولكن مما لا ريب فيه: ان للمؤسسة الصهيونية مصلحة في ذلك. فقد بنى الكيان الصهيوني نفسه على قواعد ثابتة، في طليعتها: ربط بقائه واستقراره وتفوقه بأن تكون المنطقة ـ أبدأ ـ: مضطربة غير مستقرة.. مرتاعة غير آمنة.. ممزقة غير متماسكة.. مشغولة بفتنها الداخلية المتلاحقة عن البناء والتقدم والنهوض في حقول العلم والمعرفة والاقتصاد والتماسك الاجتماعي الوثيق.

هذا هو المخطط الشرير. وهو مخطط إذ تؤيده قرائن ووقائع وأدلة كثيرة، فإنه هو نفسه الذي نبه اليه القرآن، وحذر من الوقوع في اغلاله ومستنقعاته:

أ ـ «ويريدون ان تضلوا السبيل. والله اعلم بأعدائكم» فهذا نص محكم يثبت (ارادة الإضلال) عن السبيل: سبيل توحيد الله. وسبيل وحدة المسلمين.

ب ـ «ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم» اي لسارعوا الى ايقاد الفتنة بينكم.. ومن الاشارات المعجزة ـ هاهنا ـ اشارة (وفيكم سماعون لهم). بمعنى: ان ادوات المخطط: تجند او تختار من ذوي الاستعداد المريض للاستجابة لداعي الفتنة، من الأمة ذاتها !!.

والنجاة من المخطط وشروره هي: الوعي به ـ جملة وتفصيلا ـ ثم الاستعصاء عليه أبدا وباطلاق.

وهذا الاستعصاء ذو دلالة ايمانية عميقة وساطعة. فمن دلائل الايمان بالله ورسوله: ألا يستشرف المسلم للفتنة، ولا يسارع اليها، فإذا رآها عجل الى اطفائها لئلا تعم فيكون هو نفسه ضحية من ضحاياها: «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة».

إننا نرى بلاء يوشك أن يكون ويعم.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فليجاهد في سبيل دفع هذا البلاء عن الامة: شيعتها وسنتها..

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فليعص أعداء الامة عصيانا واعيا دائما، لا تتخلله طاعة قط.

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فليعقد العزم والنية على (البحث عن الاسس المشتركة) التي تصلح قاعدة راسخة للتعاون على دفع (الخطر المشترك).

ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر: فليقل خيرا، او ليصمت.

إن على عقلاء السنة والشيعة من العلماء والمفكرين والمثقفين والسياسيين: أن يجردوا انفسهم ووقتهم من اجل (وأد الفتنة الكبرى) التي تستهدف ضرب الاسلام ذاته من حيث هو دين. وضرب الامة الاسلامية من حيث هي أمة، بغض النظر عن تصنيفاتها الداخلية أو الذاتية. فقد يعجل الاعداء الى الابتداء بضرب فريق ما، بيد ان الدور سيأتي على الفريق الآخر لا محالة.

ومن المضامين التي تعين العقلاء من الطرفين على حفظ الأمة، ورد مكايد الاعداء:

1 ـ لا نكران للكيد الخارجي. لكن دفع هذا المكر لا يتحقق بالصراخ والنواح والهروب من المسؤولية. وإنما يتحقق بأن يطهر المسلمون انفسهم من (الامراض) التي تعرض جسمهم لهجوم الجراثيم الخارجية.

2 ـ إحياء قاعدة (التثبت) فيما يحزب الامة من أمر.. لقد دعت الحمية المفرطة: شاعرا عربيا لأن يقول:

لا يسألون أخاهم جهد يندبهم في النائبات على ماقال برهانا

والمعنى: ان الرجل يندفع لنجدة قومه دون تحر وتثبت وتبصر. فالمهم عنده أن يلبي النداء فحسب، لا أن يتوخى الحق والعدل. وليس الامر كذلك في منهج الاسلام. فالنصرة في هذا المنهج مشروطة بتحري الرشد: «فمن اسلم فأولئك تحروا رشدا».. ومشروطة بالتثبت والتبين: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين».. ومشروطة بالعدل: «ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو اقرب للتقوى».. بلى، ينبغي ان يسأل الرجل أخاه ويتحرى الموقف والمصلحة قبل ان يفزع معه.

3 ـ تحرير الامة من سوء التفكير وعقمه، ومن ضيق الافق والصدر. فهذا الكوكب قد وسع الناس من كل ملة. فهناك اليهود، والنصارى، والبوذيون، والشيوعيون، وعبدة الأوثان الخ.

أفلا يتسع الكوكب للسنة والشيعة الذين يؤمنون بالله ورسوله، ويصلون الى قبلة واحدة ؟!!

4 ـ ان على العقلاء ـ في الطرفين ـ: إسكات (الدببة الغلاة) من الطرفين. فالدب ـ وان كان مخلصا ـ يقتل صاحبه ـ بحسن نية ـ وهو يريد نصرته.

5 ـ ان الخلاف بين السنة والشيعة لا ينكر. ولا ندري متى ينتهي. بيد أنه مهما امتد الخلاف في الزمن الآتي، فان المهمة الناجزة ـ والمقدور عليها ـ هي: الا يتحول الخلاف الى صراع لاهب، ومعارك دامية. والمسلم في فسحة من دينه ما لم يرق دماً حراماً.

6 ـ تجديد الاحساس والوعي بأن الذين لا يريدون الخير والتقدم لهذه الامة يعمدون ـ أبدا ـ الى توظيف الخلاف في خطط تفسد على الامة دينها ودنياها.. وتجديد الوعي كذلك بأن كل من يباشر الفتنة من الفئتين، سواء كان سنيا او شيعيا، إنما يسهم في تحقيق اهداف الاعداء: أعداء النهضة المعنوية، واعداء النهضة المادية.

7 ـ اجراء الحسابات السياسية بدقة متناهية. فكوارث الامة لم تأت من فقدان الإخلاص فحسب. وإنما اتت ـ كذلك ـ من سوء الحساب وسوء التقدير.