عن أي شرعية نتحدث؟

TT

يكثر الحديث هذه الأيام عن الحكومة الانتقالية في العراق ومدى شرعيتها، وتتوجس دول العرب خيفة من التعامل مع حكومة موصومة بالعمالة وصنيعة للاحتلال ومفروضة بالقوة، أو هذا هو المبرر المرفوع لعدم التعامل على الأقل. ورغم أن الحكومة الحالية في العراق، ورغم كل شيء، تبدو أكثر شرعية من النظام العراقي السابق، بل وأكثر شرعية من الحكومات السابقة التي قامت على ما أسموه «الشرعية الثورية» أو الشرعية الانقلابية، فإن أحداً لم يجد غضاضة في التعامل مع مثل تلك الحكومات، وبراحة ضمير هم من المحسودين عليها. مثل هذا الوضع يدعو حقيقة إلى طرح سؤال الشرعية أو المشروعية من جذوره وأساسه، فكثير من الأوضاع المعقدة، أو الأسئلة الصعبة تكون كذلك لا لتعقيد في ذاتها، بقدر ما أنه نتيجة البعد عن الأسئلة البسيطة أو تجاهلها، فيغيب المنهج وتنعدم الرؤية بالتالي. فكي تكون ضليعاً في الرياضيات، يجب عليك أولاً أن تعرف الأعداد البسيطة، والعمليات الحسابية الأولية. وكي تكون أديباً لا يُشق له غبار، فإن ذلك لا يعني تجاهل أحرف الهجاء الأولية، فهي أحجار بناء الكلام المكتوب، الذي هو بدوره التجسد الملموس للفكر. الشرعية Legitimacy وبكل بساطة، هي رضا المحكوم بسلطة الحاكم، أو لنقل رضا الشعب بسلطة الحكومة التي تسير أموره عن طريق الإلزام إن لزم الأمر. فممارسة القوة لا تكون شرعية إلا بقبول ورضا من تمارس عليه بها، وإلا فإنها تتحول إلى مجرد قوة غاشمة شبيهة بقوة العصابات أو سلطة الفتوات، حين تفتقد مثل هذا الرضا. مصادر الشرعية (أي لماذا يقبل المحكوم بسلطة الحاكم) كثيرة، وأنواع الشرعية أكثر، وقد ناقشها باستفاضة علماء الاجتماع، ولعل من أبرزهم في هذا المجال ماكس فيبر، ولكن المهم هنا هو مناقشة طبيعة الشرعية ومعناها، وليس مصادرها أو كيف تكون، رغم أهمية ذلك.

وحين يُقال رضا المحكوم بالحاكم وسلطته، فإن ذلك لا يعني أن يكون الرضا بالإجماع، فهذا إلى الاستحالة أقرب، بل هو المستحيل ذاته، ولكنه يعني درجة كبيرة من هذا الرضا، تختلف باختلاف الأنظمة السياسية وطريقتها في الوصول إلى القبول الشعبي، ومن هنا تتعدد وتختلف الأنظمة السياسية في تحديد وطريقة الوصول إلى هذا القبول، ومن ثم تحقيق أكبر قدر من الشرعية. بمعنى آخر فإنه لا يوجد، وفي أي نظام سياسي في الماضي أو الحاضر، شرعية مطلقة، بل ان الشرعية، وفي عالم الواقع، دائماً نسبية. وعلى هذا الأساس، يمكن القول ان هنالك حكومات أكثر شرعية من أخرى، ولكن لا يمكن القول ان هنالك حكومات منتفية الشرعية تماماً، أو كاملة الشرعية تماماً. فالحكومة الأميركية الحالية مثلاً حكومة شرعية لا شك في ذلك، ولكن شرعيتها قائمة على فرق في الأصوات لا يزيد عن خمسمائة صوت هي التي منحت بوش منصب الرئاسة، رغم أن نصف الناخبين الأميركيين تقريباً غير راضين عن حكمه. ولكن هشاشة شرعية الحكومة لا تعني هشاشة النظام السياسي بالضرورة، الذي تكمن شرعيته في كونه معبراً عن القيم العليا للمجتمع الذي يؤطره، ولكن هذا حديث آخر يطول.

وفي هذا المجال، يُصبح من الضروري التمييز بين نوعين، أو لنقل نمطين من الشرعية: الشرعية المثالية، والشرعية الواقعية. الشرعية المثالية تستوجب إجماعاً في الموافقة والرضا، وتحقيقاً لكل القيم التي يراها هذا أو ذاك كغايات أساسية للدولة «الصالحة»، بحيث أن انتفاء بعضها أو كلها هو انتفاء لذات الشرعية. مثل هذا النمط من الشرعية لا يمكن إيجاده في عالم الواقع، أي عالم التعدد والاختلاف، بل هو حكر على عقول الفلاسفة وأرباب الآيديولوجيا والحالمين بيوتوبيا الكمال. فمثل هذا النمط من الشرعية يقع في تناقض عنيف مع واقع الحال من ناحية، ومع غيره من تصورات للمجتمع الكامل من ناحية أخرى، فتكون النتيجة سقوطه حين يُراد تطبيقه في عالم الحقائق الصلبة، وتاريخ المجتمعات والتجارب السياسية لبني الإنسان خير دليل على ذلك. أما الشرعية الواقعية، أي الشرعية النسبية، فهي تقوم على مبدأ الرضا النسبي من ناحية، وعلى قدرة الحكومة على تسيير شؤون المجتمع من ناحية أخرى. بمعنى آخر، فإنه إلى جانب الرضا النسبي من قبل المحكوم، فإن القوة أو القدرة هي جوهر الشرعية أو الحكومة الشرعية، إذ بدون تلك القدرة فإنه لا يمكن للحكومة أن تفعل أي شيء، مهما كانت نسبة الرضا الشعبي عن تلك الحكومة. بل ان هذا الرضا مرتبط بشكل أو آخر بقدرة الحكومة على «الإنجاز»، إذ بدون ذلك فإن نسبة الرضا تتدنى حتى تكاد تصل إلى حد الصفر، كما في حالات الفوضى الاجتماعية أو الفراغ السياسي الذي هو ناتج من نتائج عدم القدرة والعجز عن الإنجاز. بإيجاز العبارة، فإن الشرعية تستلزم قدراً معيناً من الرضا والقبول، بالإضافة إلى قدر معين من القوة والقدرة، وبدون هذين الجناحين معاً تنتفي الشرعية ولا تعود الحكومة حكومة.

وكما أنه في عالم الواقع لا وجود لحكومة قائمة على شرعية مثالية (الرضا المطلق + تجسد كل القيم والغايات)، مهما كانت المحاولات للإيهام بها، كما في حالة الأنظمة الشمولية والتجارب الطوباوية مع اختلاف الدوافع، فإنه أيضاً لا وجود لحكومة غير شرعية بشكل مطلق، أي فاقدة للرضا تماماً، وقائمة على القوة المجردة وحدها. فحتى في الأنظمة الديكتاتورية المطلقة تتمتع الحكومة بشيء من الشرعية، وإن كانت النسبة أقل بكثير من تلك الأنظمة الأقل ديكتاتورية. العامل المشترك بين كل أنواع الشرعيات ونسبها هو القوة أو القدرة، التي بدونها لا يمكن للحكومة أن تتحرك، كما سبق القول. ومن هنا، أي من العلاقة الجدلية بين الرضا والقدرة، يمكن أن يمتد جسر معين لردم تلك الفجوة بين عالم المثال وعالم الواقع. فالشرعية المثالية، ورغم أنها بعيدة المنال في عالم الواقع نتيجة واقع الواقع، فإنها تبقى حلماً لدى الكثيرين، سواء لدى الفلاسفة الحالمين بعالم من الكمال، أو بالنسبة لفرد بسيط من العامة لا يسعى لأكثر من رغيف خبز مغموس بشيء من الأمن والحرية والكرامة الإنسانية. والشرعية الواقعية، ورغم تمتعها بقدر نسبي من الرضا والقدرة، إلا أنها فاقدة للشرعية لدى قطاعات قد تكبر وقد تصغر من المجتمع، وبالتالي فإن شرعية ذات الشرعية قد تصبح غير مستقرة وفقاً للظروف التي تمارس فيها الحكومة حركتها. هناك أمل وهناك واقع، هناك حلم وهناك واقع، فكيف السبيل إلى دمج الطرفين؟

«الإنجاز» هو ذاك الجسر الذي يمكن من خلاله العبور من عالم الواقع إلى واقع آخر يقترب من عالم المثال، أو أُريد له أن يكون مثالاً، وإن لم يحققه. فالوصول إلى الكمال يعني نهاية الحياة والتاريخ كما نعرفهما، والحياة والتاريخ لا ينتهيان طالما بقي هنالك إنسان يسعى في هذه الأرض. القوة أو القدرة هي العامل المشترك بين مختلف أنواع الشرعيات الواقعية، طالما كان الرضا نسبي الحدود. الرضا المطلق والإشباع الكامل هما العامل المشترك بين مختلف أنواع الشرعيات المثالية. لدينا إذن طرفان بتوطيد العلاقة بينهما تتوطد الشرعية أكثر، وتقترب من حدود الكمال، وإن كانت غير قادرة على الوصول إليه. من خلال الإنجاز تتوطد هذه العلاقة وتتدعم: فالإنجاز يعني القدرة على الفعل، وهذا تدعيم لعنصر القوة في الشرعية من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن الإنجاز يعني تحقيق غايات وتجسيد قيم وإشباع حاجات ورغبات، وفي ذلك تدعيم لعنصر الرضا في العلاقة بين الحاكم والمحكوم بما يكفل تجسداً أكبر لمفهوم الشرعية. فالناس قد ترضى عن حكومة ما في مرحلة ما، ولكن مثل هذا الرضا ليس من الثوابت، فهو لا يدوم حين تصبح الحكومة، أو حتى ذات النظام السياسي، عاجزاً عن الإنجاز، إما لعلة في قدراته، أو لعلة في تصوراته، أو لعلة في مفهومه للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، أو لكل هذه الأسباب معاً. ويخطئ كثيراً من يظن أن الشرعية الأولية، أي الشرعية المؤسسة للنظام السياسي في بداية نشوئه، هي شرعية ثابتة وغير قابلة للتبدل أو التحول، فيما يتعلق بالممارسة الحكومية. فقد تكون الشرعية المؤسسة الأولى قائمة على حركة ثورية، أو آيديولوجيا معينة، أو تراث محدد، أو شخصية كارزمية، أو مذهب ديني خاص، أو حتى قوة خارجية بحتة، أو غير ذلك من مصادر وأسس للشرعية، ولكن دون الوصول إلى درجة معينة من رضى الحاكم بالمحكوم، ومحاولة الحفاظ على هذه الدرجة، فإن ذات الشرعية لا تدوم. فالرضا والقبول هما روح الشرعية، وبدونهما قد تبقى الشرعية قائمة جسداً، من خلال النظام السياسي المؤطر، ولكنه في النهاية جسد بلا روح. هذا الرضا لا يتحقق إلا من خلال علاقة سليمة بين الحاكم والمحكوم. علاقة تقوم على أساس أن الحاكم (سواء كان الحكومة أو النظام السياسي بجملته)، ما هو إلا أداة من أدوات تنظيم المجتمع وتحقيق سلاسة حركته، وليس تسلطاً فوقياً يمارس السلطة لذاته. بدون فهم وتصور أولي سليم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فإن كل شرعية مهما كانت جذورها تتحول إلى نوع من السلطوية غير المبررة، أو تشريع لشرعية اللاشرعية، مع كل ما في هذا القول من تناقضات قد لا تجد لها حلاً إلا في إعادة النظر في ذات المفهوم. بمثل هذا الفهم لمفهوم الشرعية، يمكن في تقديري مناقشة بعض من أوضاع العراق هذه الأيام، وخاصة فيما يتعلق بالحكومة الانتقالية هناك، وهذا ما نتركه لأسبوع مقبل.

عدد: 9049