الأقمار الصناعية العسكرية الأوروبية أدوات جديدة للاستقلال الدفاعي عن أميركا

TT

واشنطن: خاص بـ«الشرق الأوسط»*
جاء التدخل الغربي في حروب البلقان منذ منتصف التسعينات ليسلط الضوء على القلق الأوروبي على استقلال أوروبا عن التكنولوجيا الأميركية في المجالات الحاسمة لقضايا القيادة والسيطرة والاتصالات والكومبيوترات والاستخبارات، والمسح والاستطلاع (ويرمز لها بـ C4 ISR). وقد أدى هذا الاعتماد الأوروبي على الولايات المتحدة إلى تقليص نفوذ أوروبا، وبخاصة في مجال تحديد أهداف الضرب، مما أدى بدوره إلى احتكاك سياسي.

أما الآن، فإن تعزيز صناعات الدفاع الأوروبية، ودعم الولايات المتحدة لتقوية الدور الأوروبي في حلف الأطلسي (ناتو) يغيّران من هذه الصورة، شأنهما شأن حرية الحصول التجاري على أجهزة متطورة مثل «دوائر المايكروويف المندمجة المتماسكة» (MMICS)، المستعملة في أجهزة الرادار والاتصالات، ومثل أجهزة الشحن المزدوجة (CCDS) لرسم الصور. وان انشاء قوة الرد السريع الجديدة للاتحاد الأوروبي سيزيد من الطلب على الاتصالات عبر الأقمار الصناعية.

لقد أكدت حرب الخليج 1991 الأهمية المركزية للتكنولوجيا الجديدة المذكورة أعلاه (C4 ISR) في الحرب المعاصرة، لكن أوروبا تفتقر إلى أجهزة حديثة ونقالة من هذه التكنولوجيات الجديدة (C4 ISR)، كما تفتقر إلى الاستطلاع الاستراتيجي المستقل للاغراض العسكرية. وخلافا لوكالة الفضاء الأوروبية (ESA) البالغة النجاح، التي أتاحت لأوروبا حرية الوصول المستقل إلى الفضاء بفضل اطلاق صواريخ اريان، فإن التعاون الفضائي العسكري الأوروبي قد تعطل بسبب الخلافات حول حصص التمويل، وحصص الصناعات القومية، كما بسبب ارتفاع التكاليف. ولما كانت الولايات المتحدة تخشى من اضعاف حلف الأطلسي (ناتو) وتقلق من آفاق التنافس الأوروبي من الصناعات الأميركية، فقد لعبت دورا حاسما في عزل جهود فرنسا للقضاء على الهيمنة العسكرية للولايات المتحدة على الفضاء.

أقمار رسم الصور أطلقت فرنسا قمرين صناعيين عاليي الوضوح للاستطلاع البصري، هيليوس ـ 1، في عامي 1995، و1999، بمشاركة إيطالية (%14) وإسبانية (%7). ويبث القمران نحو 100 صورة يوميا، ويعتبران بمثابة أدوات عملياتية ممتازة، رغم انهما لا يعملان إلا نهاراً وفي ظروف طقس حسن. وضمنت الدول الثلاث المشاركة ان تحظى كل واحدة منها بإسناد مهمات محددة إلى هيليوس، بصورة مستقلة عن بعضها البعض، وذلك في إطار الحصة المقررة لها باستخدام المنظومة. ولما كانت السياسات الأمنية والدفاعية الأوروبية تندمج بوتيرة سريعة، فإن %20 من المهمات المسندة إلى هيليوس تتحدد بصورة مشتركة.

وأدت هذه الروحية نفسها بالاتحاد الأوروبي الغربي (WEU) إلى إنشاء مركز صور الأقمار في توريخون، اسبانيا، الذي بدأ العمل منذ مايو (أيار) 1997. ويتركز الغرض الرئيسي منه على استغلال الصور المتاحة لأغراض الأمن الأوروبي في المجال التجاري بطلب من الاتحاد أو من أي من الأعضاء العشرة. ويمكن استخدام صور هيليوس أيضا، وان ذلك بكلفة 30 ألف دولار لكل مشهد.

ان الخرائط الرقمية المجددة التي وضعها المركز لكوسوفو بعد نوفمبر (تشرين الثاني) 1998، أثبتت فائدتها لعمليات حلف الأطلسي (ناتو) ولعمليات أخرى. وحين يقوم الاتحاد الأوروبي (EU) باستيعاب الاتحاد الأوروبي الغربي (WEU)، سيجري تحويل المركز إلى وكالة مستقلة من وكالات الاتحاد الأوروبي، تعتمد على معاهدة منفصلة بين الأطراف المشاركة. أما الدور المقبل أو المكان المقبل لهذا المركز في اطار الاتحاد الأوروبي، فلا يزال غير واضح بالدقة.

لقد حظي الأوروبيون، بدرجات متفاوتة، بالحصول على الصور الأميركية وفقاً لترتيبات التعاون المتبادل في مجالات الدفاع والاستخبارات. غير أن هذا التبادل لا يتضمن المعلومات الخام، بل الصور المنتهية، أو المعلومات الناجزة. وقد اضطربت هذه الترتيبات احيانا، خاصة خلال فترة العون السري الذي قدمته الولايات المتحدة إلى كرواتيا والبوسنة عام 1994، حين وجدت القوات البريطانية، والوحدات الحليفة الأخرى، نفسها على الأرض محرومة من بعض المعلومات الاستخباراتية الأميركية. ولهذا تبلور هدف مشترك لدى الاتحاد الأوروبي بامتلاك قدرات مستقلة على الاستطلاع، والتقييم الدقيق، الآني لأغراض التثبت من اوضاع معينة ودرء الأزمات وإدارة النزاع وتنفيذ العمليات العسكرية. إن القدرة على تكوين رؤية مستقلة قائمة على مثل هذه التقديرات تعتبر ضرورية للمشاركة الفعالة في الحفاظ على الأمن الدولي، وقد ساعدت على تعزيز الثقة الأوروبية في الاستخبارات الأميركية. غير أن هذه القدرة نفسها أدت، في بعض الحالات، إلى نشوب الخلافات، وعلى سبيل المثال حين أعلنت فرنسا عام 1996 ان صورها الخاصة من هيليوس لا تشير إلى وجود حركة قوات عراقية كبيرة، خلافا لما تؤكد الولايات المتحدة وقوعه.

ان توفر الصور عالية الدقة، بسهولة أكبر، من القمر التجاري ايكونوس، الذي أطلق في الولايات المتحدة في شهر سبتمبر (أيلول) 1999، أو الصور المتوقعة من الأقمار الأخرى في المستقبل القريب، يثير الشكوك حول مدى الحاجة إلى مواقع عسكرية أوروبية خاصة في الفضاء، لكن معظم الحكومات الأوروبية على قناعة أنها لا تستطيع الاعتماد حكيا على المصادر التجارية. سبب ذلك ان السياسة الأميركية المعلنة منذ عام 1994 تمنع على الحكومات والشركات الأجنبية المنافسة تشغيل أقمار صناعية متطورة للصور.

وسعت الولايات المتحدة إلى احتكار هذا السوق من خلال التسويق العالمي النشط، كما أصرت كليا الحق القانوني في استخدام «ضوابط الغلق» من طرف واحد، لمنع جمع الصور التي ترى الولايات المتحدة أنها تمس مصالحها الأمنية.

وتتضمن البرامج الأوروبية الحالية اطلاق القمر الصناعي الفرنسي هيليوس ـ 2، وهو قمر عالي الدقة لالتقاط الصورة، في عامي 2003 أو 2004. ويشتمل هذا البرنامج الذي تبلغ قيمته 1.8 مليار دولار، على التزام اسباني بدفع 70 مليون دولار. وهناك ايضا عدد آخر من برامج اطلاق اقمار صناعية اصغر وارخص تكلفة. ولعل اكثرها تطورا هو مجمع الرادار ـ القمر الصناعي «سارلوب»، الذي تعكف ألمانيا على تطويره. ومن المقرر أن يبدأ الاقتناء في عام 2001، على أن تبدأ جاهزية المنظومة للتشغيل في عام 2004. تبلغ الكلفة الإجمالية لهذا البرنامج كما يقال، أقل من 400 مليون دولار، وهو أرخص من مشروع الرادار الألماني الفرنسي «حورس» الذي تم التخلي عنه عام 1997.

ان القرار الألماني لبناء «سارلوب» يوحي أنها تعتقد أن التعاون المخابراتي الفعال سيتحقق على افضل صورة ببناء اقمار صناعية خاصة بألمانيا. وأعلنت فرنسا وألمانيا في يونيو (حزيران) 2000 ان هيليوس ـ 2 وسارلوب سوف يعملان بالتضافر، حتى يستطيع الطرفان الاعتماد على أقمار الصور وأقمار الرادار في آن واحد، رغم ان البلدين لن يتشاركا في كلفة الإنتاج والحصول على القمرين المذكورين. وقد ينطوي هذا الترتيب، على بيع الصور بصورة متبادلة. ويمكن له أن يؤلف، آخر المطاف، نواة شبكة استطلاع ومسح واستخبارات أوروبية أكثر تنظيما.

وهناك بلدان أخرى تدرس ترتيبات مماثلة. فإيطاليا مثلا، تسعى إلى تطوير قمر صناعي مدني ـ عسكري للصور عالية الدقة، يدعى «كوزمو سكاي ميد» يفترض أن يتألف من اربعة رادارات، وثلاثة توابع بصرية مصغرة. وتدرس اسبانيا منظومة بصرية تدعى «عشتار» للمهمات الدفاعية وتبدي المؤسسة العسكرية التركية الاستعداد لانفاق 250 مليون دولار على قمر صناعي للصور عالية الدقة، وهي تدرس عدة عروض متنافسة من فرنسا واسرائيل والولايات المتحدة.

تحتاج القوات المسلحة الاوروبية في المستقبل الى استخدام الاقمار الصناعية بدرجة متسعة، ان ارادت تحسين قدراتها في مجال القيادة والسيطرة، والاتصالات والاستخبارات (ما يرمز له بـ C3I) وان الاستخدام المؤقت لاجهزة الالتقاط والبث في الفضاء قد اصبح سلعة رائجة للمتاجرة علما ان الزبائن العسكريين يحتلون %40 من هذا السوق. ويعتمد البنتاجون على الاقمار التجارية لسد اكثر من نصف حاجته الى الاتصالات العسكرية.

غير ان الخيارات التجارية لا يمكن ان تلبي المتطلبات العسكرية الاساسية. وتظل الحاجة قائمة الى وجود قطاع عسكري خاص في الفضاء يوفر قناة مضمونة عند الطلب، قناة واسعة للعمليات المستقلة بما فيها ضمان امن البث والاتصالات، ومقاومة التشويش، واشكال التدخل الالكترو ـ مغناطيسي الاخرى.

ان الولايات المتحدة تقدم للحلفاء الاوروبيين في حلف الاطلسي (ناتو) حرية الوصول الى اقمار الاتصالات العسكرية من خلال القيادة الاميركية الاوروبية يوكوم Eucum. وقد اثبت ذلك فاعليته في البلقان. لكن اثره المريح مؤقت ليس إلا. ذلك ان النقص في قدرة الاتصالات العسكرية الاوروبية خطير جد، خصوصا ان المنظومة المنصوبة حاليا تقترب من نهاية عمرها التصميمي. وان مشروع الاتصالات البريطاني ـ الفرنسي ـ الالماني المشترك، تريميل سات، الذي اعتبر مشروعا رائدا في حينه، قد فشل عام 1998 بانسحاب بريطانيا منه، بسبب عدم توافق الترتيبات الزمنية، والاولويات الصناعية. لقد رأت المانيا الحاجة الى انشاء منظومة اقمار اتصالات خاصة بها في عام 1994 بعد مشاركتها في عملية الامم المتحدة في الصومال. لكن الـ 90 مليون دولار التي تعتزم انفاقها سنويا على ذلك ليست مخصصة لان تكون كافية لبناء محطاتها الخاصة في الفضاء.

لقد تعقدت القرارات الاوروبية بسبب غموض المواصفات التقنية. ولقد قررت الولايات المتحدة ان تتحول الى حزمة الذبذبات الفائقة للغاية EHF في مطلع الثمانينات لكي تضمن استمرار منظومة اتصالاتها وسط بيئة حرب نووية. ومن مزايا هذه المنظومة قدرتها على احتواء حزمة ذبذبات واطوال موجية عالية، وقد اصبحت منذ ذلك الحين عنصرا حاسما في ثورة المعلومات. ان استعدادات الجيش الاميركي لثورة رقمية يتطلب قمر اتصالات ذا «ذبذبات فائقة للغاية» بسعة 1.5 ميجابايت في الثانية وان الحلفاء المشاركين في العمليات العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة سوف يحتاجون الى الارتباط بمثل هذه المنظومة. ان متطلبات سعة حزمة الذبذبات سوف تتصاعد، شأن تزايد الطلب على الانترنت ومؤتمرات الفيديو. وقد اثبتت مشاركة قوات من مشارب متباينة في عمليات البلقان ان الاتصالات ذات «الذبذبات الفائقة للغاية» EHF، بما في ذلك وجود اقمار في الفضاء، امر لا غنى عنه للعمليات العسكرية المتعددة الجنسيات. وفي ضوء حاجات الملاحة الى الاتصالات عبر اجهزة الذبذبات العالية الفائقة SHF، فإن وجود معدات في الفضاء ومحطات ارضية يجب ان يتميز بطلاقة الحركة والتفاعل المتبادل.

وينعكس ذلك في المشاريع الراهنة في اوروبا. فايطاليا تتهيأ لاطلاق اول قمر خاص بها للاتصالات العسكرية، «سيكرال» الذي صممته شركة الينيا سبازيو بحيث يضم متطلبات كل الذبذبات والاطوال الموجية. وفي اواخر نوفمبر (تشرين الثاني) اعطت فرنسا مقالة بقيمة 1.2 مليار دولار الى شركة الكاتيل سبيس لبناء اقمار سيراكيوز ـ 3 للاتصالات العسكرية، لكي تحل، ابتداء من عام 2003، محل وضع الاعباء العسكرية حاليا على كاهل القمرين المدنيين تليكوم ـ 2. وسيضيف ذلك قدرة معينة في «الذبذبات الفائقة للغاية» EHF، ويعبر عن عزم فرنسا على دمج اقمارها بمنظومات حلف الاطلسي وتعتزم المانيا شراء حق استخدام بعض قنوات سيراكيوز ـ 3.

وتدرس اسبانيا وضع حمولة البث العسكري على اقمار «هيسباسات» للاتصالات المتعددة الاغراض، التي تضم قمرا خاصا للاغراض العسكرية. وتدرس بريطانيا عدة عروض متنافسة قدمتها شركة استريوم البريطانية ـ الفرنسية ـ الالمانية، وشركة لوكهيد مارتن الاميركية، لمنظومة جديدة تخلف سلسلة اقمار سكاي نيت ـ 4 ابتداء من عام 2005.

وان اقمار ناتو ـ 4، البريطانية الصنع، تحتاج الى استبدال، ولكن ليس مؤكدا بعد ان كانت ستتوفر ارصدة كافية للبنى التحتية للحلفاء. وعرضت شركة استريوم استخداما مضمونا لقدرات الاستلام الارسال الآمن في اطار شبكة اقمار تملكها الشركات الخاصة شريطة ان تكون الحكومات الاوروبية مستعدة للدخول في التزامات طويلة الاجل. ان المسرح مهيأ امام اوروبا لكي تطور بالتدريج حشدا من منظومة الاستلام والارسال المتضافرة من المعدات الاميركية.

جهود عبر الأطلسي ان المطامح الاوروبية في الاستخدام العسكري للفضاء تظل محدودة اذ بينما تنفق الولايات المتحدة 11 مليار دولار كل سنة، لن يصل الانفاق الاوروبي مليار دولار في المستقبل المنظور ولا تتوفر اوروبا على رؤية ملموسة للآفاق بعيدة المدى. ويعتزم الاتحاد الاوروبي ووكالة الفضاء الاوروبية ESA وضع سياسة فضاء اوروبية موحدة. وقد شرعت الاوساط المعنية في وكالة الفضاء الاوروبية ببدء النقاشات المستحقة منذ امد بعيد، حول الحاجة الى وكالة للعمل في المجال العسكري في الفضاء وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.

ولكن لا يبدو على الاتحاد ولا على الوكالة ان احدهما بصدد تطوير التقاليد الامنية اللازمة لمشاريع الدفاع. وعليه فمن الضروري ان ترى اوروبا تخطيطها على الشبكات التابعة لحلف الاطلسي. وان اتفاقيات الاطلسي حول توحيد الصيغ التقنية ونظم تبادل المعلومات الاستخباراتية والمسح والاستطلاع، تقدم نموذجا مفيدا. وان التعهد بوضع سياسة خارجية وامنية ودفاعية اوروبية موحدة وتنفيذ عمليات عسكرية بقيادة اوروبية، ان هذا التعهد يحتم وجود هيكل مخابراتي اوروبي متكامل. وان ازدياد المساهمة الاوروبية من شأنه ان يشجع الولايات المتحدة على دعم هكذا تطور، بالتوجه نحو اقامة شبكات استخبارات مشتركة، عابرة للاطلسي.

* خاص من «آي آي ستراتيجيك كومنتس»