لورنس والخدعة الأزلية

TT

منذ ربع قرن والتلفزيون البريطاني يكرر في أعياد الميلاد من كل عام عرض فيلم لورنس العرب، وهذا العام لم يكن نشازاً، فالظاهر ان المغامرة الشرقية تستهوي جميع الأجيال الغربية وإلا ما السر في الإلحاح على هذا الفيلم بالذات وفي هذا التوقيت من السنة؟

ولا يستطيع احد ان يزعم بعد مشاهدة الفيلم ان الرؤية الغربية تحكمت بالمخرج ديفيد لين اثناء العمل على هذا الفيلم الذي صار من ابرز كلاسيكيات السينما، فالتعاطف مع العرب وقضيتهم المركزية ـ آنذاك ـ وهي التحرر من الأتراك تم تقديمها كأحسن ما يكون ودون تجن على الحقائق التاريخية التي كشفت لاحقاً ان العرب خدعوا واستبدلوا بالنير العثماني نيرين اثنين، فقد ورث الانجليز والفرنسيون المنطقة، وصارت الاحلام العربية بالاستقلال صفحة مطوية ومنسية بمجرد انسحاب الاتراك.

صحيح ان المخرج قدم العرب اثناء دخولهم مع الجنرال اللنبي الى دمشق بصورة كاريكاتورية، وجعل أبرز قائدين منهما يتشاجران لأسباب قبلية في أول اجتماع قومي بعد التحرر لكنك لا تستطيع ان تلومه على ذلك، فالواقع يفرض نفسه والعرب كانوا وما يزالون في بعض مناطقهم يضعون القبيلة قبل الدولة والأمة.

وفي مجال العنف المبالغ فيه والمذابح الكثيرة التي كان يمكن تجنبها أعاد المخرج الى مواطنه لورنس بعض اسباب ذلك العنف، ففي لقطة بالغة التأثير في آخر معركة مع الاتراك قبل دخول دمشق يقول الشريف علي الخريش الذي قام بدوره عمر الشريف للصحافي الأميركي الذي صنع اسطورة لورنس صور واكتب عن بربرية العرب وهمجيتهم ومذابحهم التي يرتكبونها دون رأفة، وكان هو والصحافي قد شاهدا لورنس يقتل الغزال والذين ألقوا اسلحتهم واستسلموا، ويصفي الأسرى بالمسدس وبالسلاح الأبيض.

وخلف عنف لورنس مع الاتراك قصة سرية عالجها المخرج بالرمز، فمن المعروف تاريخياً ان الأتراك قد اغتصبوا لورنس حين وقع في اسرهم في البادية السورية، وقد أبرز ديفيد لين حكاية الاغتصاب من خلال نظرات الشهوة على وجه السجان التركي الذي كان يتلمظ وهو يشاهد لحم لورنس الأبيض وشعره الأشقر المسبسب، وبعد حفلة التعذيب التي جرى فيها اغتصاب لورنس تم رميه في الوحل وهو مثخن الوجه والقفا.

وهناك اشارة الى عنف لورنس الدفين في الربع الأول من ذلك الفيلم الطويل، فحين زار المخبر البريطاني الجنرال اللنبي في القاهرة ليخبره بسيطرته على العقبة وطلب الجنرال من المخبر ان يعود للمنطقة اعتذر اولاً وحكى للجنرال عن الكيفية التي نفذ فيها حكم الإعدام بأحد رجال القبائل وقال له في نهاية الحكاية انه استمتع بالقتل، وهذا ما يخيفه ويفترض ان يخيف كل انسان سوي.

ونفسية لورنس مثل نفسيات الكثيرين من المغامرين شديدة التعقيد والتركيب ويتحكم فيها اكثر من عنصر، فلا بد ان تخالط الجرأة في نفسية المغامر مجموعة من الطبائع الدفينة التي تدفعه لإثبات ذاته باسلوب يتميز بالعنف، والمبالغة في تطبيقه، وهكذا كان لورنس قبل ان يغتصبه الاتراك، وكل الذي حصل بعد عملية الاغتصاب ان جرعة العنف اختلطت بالحقد والرغبة بالانتقام، والحاقد على شخص أو عرق هو في الواقع برميل بارود متفجر، ورؤية ذلك الشخص أو ما يرمز إليه هو الكبريت الذي ينتظره البارود لينفجر مدمراً كل ما حوله من حياة وأحلام.

ان حكاية لورنس مع الشرق ليست قصة رومانسية كما يظن بعض العرب والغربيين ولكنها حكاية عنف، ودم، وغدر وخيانة، ومن المستحسن ان نستعيدها كما يستعيدونها لنتذكر ان المصلحة هي التي تسير دائماً التحالفات الدولية أما العدالة والقانون الدولي وحقوق الشعوب، فليست اكثر من خدعة أزلية وكلمات معجمية باردة لم يكترث لها اللنبي قبل تسعين عاماً إلا بالمقدار نفسه الذي اكترث لها شوارزكوف قبل عشر سنوات من هذا التاريخ.