أبو العتاهية بالفرنسية

TT

نقل المستشرق الفرنسي اندريه ميكيل نحو مائة قصيدة لشاعر الخليفة هارون الرشيد «ابو العتاهية» في كتاب جديد سماه «قصائـد الموت والحياة». ولا اعرف لماذا انتقى ميكيل الشاعر الذي نعته الخليفة بـ«العته» قائلا له «انت متحذلق معته». لكن ابو العتاهية ظل في اي حال شاعر الخلفاء، من المهدي الى المأمون. وإن كانت شهرته قد ذاعت اكثر في قصر الرشيد الذي حبسه لاقلاعه عن الغزل، فيما حبسه المأمون لتغزله بجارية الخيزران، ام الرشيد.

عدت الى بعض كتب النقد الادبي بحثا عن تقييم عربي لاسماعيل بن القاسم، فلم اجد فيها كبير حماس لشعره. وتقول «الموسوعة العربية» انه كثر في شعره «الوسط والساقط». بينما يقول الاستاذ احمد ابو سعد انه حاول التحرر من عروض الخليل. وقد سئل مرة عن سبب ذلك فقال «انا اكبر من العروض».

ويذكرني الجواب بطرفة اشتهرت عن شاعر فرنسا فيكتور هيغو الذي قال له احدهم «ان هذه الكلمة ليست واردة في القاموس» فاجاب: «بعد الآن سوف يبدأ القاموس في استخدامها»! للمستشرقين اذواقهم في الانتقاء. وربما كان شعر الزهد عند ابو العتاهية هو الذي اجتذب اندريه ميكيل. او ربما الحكم والامثال. ومنها قوله الشهير: اذا المرء لم يعتق من المال نفسه تملكه المال الذي هو مالكه! غير ان المؤرخين يقولون ان ابو العتاهية كان دعيا في زهده. فقد كان بخيلا ومحبا للمال متهالكا على جمعه. وهذا ما يقوله ميخائيل نعيمة في جبران خليل جبران الذي ظل برغم شهرته وماله، يتلقى المساعدة التي خصصتها له راعيته ماري هاسكل في بداية حياته، وقدرها 75 دولارا في الشهر.

ويختلف المؤرخون في مهنة ابو العتاهية الاصلية. ويقول اندريه ميكيل انه كان فخاريا، يصنع الخزف ويتاجر به. لكن «المبرد» يقول انه كان يتاجر بالجواري، وانه بدأ حياته فقيرا يعاشر الخلفاء. والارجح انه كان خزافيا، لان والده كان حجاما. والمحجمة هي الكأس التي تستخدم في معالجة امراض الرئة. وتسميها العامة في لبنان «كأس الهواء». وتعمل باحراق ورقة في قلبها لاخراج الهواء منها ثم توضع على ظهر المريض جهة الرئتين وتسحب بقوة. وبرغم اختراع المضادات الحيوية لا يزال هناك من يستخدم هذه الوسيلة في العلاج. والخطأ في استخدامها قاتل.

يبدأ معظم الشعراء والادباء حياتهم في «معاشرة الخلفاء» وفي الكير ينادون على التوبة. وكان تولستوي «زيرا» في شبابه وفي سنواته الاخيرة صرف كل حياته لفعل الخير وغسل اقدام الفقراء. واخذ يطالب بالغاء الدولة واعلان «حكم الشعب». وحذر من الديمقراطية على الطريقة الغريبة، ودعا الروس الى نبذ الصناعة والعيش في الطبيعة. ولكل شاعر في العصور الماضية «تأملاته» كما في العنوان الشهير لقصائد فيكتور هيغو الرومانسية، وهي اشبه «بذات الامثال» التي تركها ابو العتاهية. ولكن لكل مناخه الشعري والنفسي والاجتماعي. واحد ولد في الانبار وعاش في بغداد وآخر ولد في الريف وعاش في باريس وامضى سنواته الاخيرة في المنفى قبالة الساحل البريطاني. غير ان بغداد في عصر الرشيد كانت هي «باريس» عصرها. وكان التوقيت العالمي بتوقيتها كما هو الحال مع توقيت جرينتش اليوم. وعندما قمت بابحاث تاريخية لكتابي «اوراق السندباد» ادركت لماذا يتحول التراث عند العرب الى عصب.