التفاوض لا يستلزم التنازل

TT

وحّدت الانتفاضة الفلسطينية حولها شعب فلسطين بالإجماع على انها الوسيلة الأجدى لتحقيق التحرر من الاستعمار الاسرائيلي. والتقت على ذلك فصائل الشعب الفلسطيني بفعالياته السياسية وحركات المقاومة، كما وحدت الانتفاضة مسلمي فلسطين وعربها المسيحيين، وسقط فيها شهداء شعب فلسطين الواحدة بمن فيهم عرب اسرائيل، وأصبح بذلك شعب فلسطين مرابطاً في الخندق الواحد.

لكن الرجوع الى التفاوض مع اسرائيل على مائدة الرئيس (الامريكي) بيل كلينتون يوشك أن يحدث شرخاً في صف فلسطين المرصوص بين الفعاليات التي لا تزال لم تيأس من جدوى التفاوض وبين حركات المقاومة التي تعارض هذا الأسلوب وتحكم عليه بالعقم، والتي تعطيها حق اصدار هذا الحكم تجارب المفاوضات الفاشلة الممتدة ما بين محطات مدريد، وأوسلو، و«واي ريفر»، وشرم الشيخ، وكامب ديفيد الأولى والثانية، وهي مفاوضات استغرقت ما يناهز عشر سنوات من دون أن تبرَح مكانها.

لقد طُرح الخلاف لأول مرة ـ بين أنصار جدوى التفاوض وبين من يؤمنون بتجاوزه أغراضه ـ مشكلة طبيعة الحكم في الجزء المحرر من فلسطين التابع للسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس ياسر عرفات، وارتفع صوت المطالبة بإقامة حكومة وحدة وطنية تشارك فيها فصائل المعارضة لتصبح بذلك أكثر تمثيلية للشعب الفلسطيني وتتولى عند الاقتضاء شأن المفاوضات، لتُبلِّغ رفض العروض التي طُرحت في قاعدة «بولينغ» لتسوية النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي، وجاء ذلك على لسان مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح الذي يقال عنه انه الساهر على تنظيم الانتفاضة، وقد طرح البرغوثي بقوة هذا البديل السياسي وأهمية وظيفته تضفي أهمية كبرى على موقفه هذا.

ولمن يتشككون في فعالية وسيلة التفاوض أكثر من حجة يصعب دحضها: منها وفي طليعتها استخلاص العبرة من فشل المفاوضات السابقة وعقمِها، وافتضاحِ ما سُمِّي فيها بعملية السلام التي بينت أنها ليست أكثر من صفقة سلام غش وغبن لفلسطين، ومنها ان المفاوضات الأخيرة التي عُلِّقت يوم السبت الماضي كانت تجري في محيط مهزوز بالنسبة للأطراف المشاركة فيها، وأنها لا يمكن بالتالي إلا أن تكون مخلخلة ولا تستقر على نتيجة.

فعلا جرت المفاوضات وكل طرف فيها يعاني من خصوصية ظرفية يجتازها ولا تسمح له بحرية الحركة: الرئيس كلينتون عيناه مشدودتان الى عقارب الساعة ليلة العشرين من يناير (كانون الثاني) 2001 حيث سيسلم مفاتيح البيت الأبيض للرئيس الجمهوري الجديد، وهو لا يزال مصمما على أن يسجل له التاريخ أنه رجل السلام، ولا يرضى أن يفشل في ما نجح فيه نظيره الرئيس جيمي كارتر، الذي أشرف على تسوية النزاع بين اسرائيل ومصر ووضع توقيعه بوصفه ضامن السلام على اتفاقية كامب ديفيد 17 شتنبر (أيلول) عام 1978 بجانب توقيع أنور السادات ومناحيم بيغين. ويخيل إليَّ أنه ـ وهو يجمع حقائبه ـ قد أفرغ حقيبة خاصة ليضع فيها ملف نجاحه في إبرام صفقة سلام يحتفظ بها كأثمن حقيبة، ولذلك فهو ـ وعقارب الساعة تتحرك أمام عينيه بسرعة ـ يريد أن يتحرك في المفاوضات مسابقاً وتيرة سرعة الساعة، وهو يدرك أن الوقت قد ضاق عن إبرامه سلاما حقيقيا مستقرا وأنه في نهاية المطاف وفي أحسن الظروف لن يصل إلا لسلام مهزوز لا تتوفر له المشروعية لأنه لن يرضى عنه الجميع، وهو لا يملك غيره لأن اسرائيل لم تنضج بعد لإقامة السلام على أساس مقتضيات الشرعية الدولية طبقاً لقرارات 242، و 338، و 194 أي السلام الشرعي الشامل العادل، وهو يدرك ان اصراره على إدارة المفاوضات مع وجود الرئيس الجديد المنتخب يوحي بأنه يتجاوز حدود سلطته المحدودة في تصفية القضايا الجارية خلال الفترة الممتدة ما بين اعلان انتخاب الرئيس الجديد ودخوله البيت الأبيض. وملف السلام ذو الأبعاد والآثار المتعددة لا يعتبر من القضايا الجارية التي يمكن تصفيتها في ظرفية الانتقال العابرة.

أما المفاوضون الإسرائيليون باسم إيهود باراك فهم يدركون أنهم غير مفوضين من رئيس حكومتهم لإبرام سلام حقيقي وإنما لسلام ينتزعونه من نظرائهم الفلسطينيين لانقاذ رئيسهم من الغرق الذي وقع فيه والذي لم يبق له بعده إلا أن يقول «آمنت»، وهم يعلمون أن هذه الكلمة تجري على لسان رئيسهم خفيفة على اللسان ولكن لا يصدقها الجنان، وأنه في تلويحه ببعض «التنازلات» التي أذن لهم بالافصاح عنها في قاعدة «بولينغ»، إنما هو مكره لا بطل، وأنه لو تقدم الى الانتخابات المقبلة وليست معه وثيقة سلام سيكون مصيره نهائياً، إذ سيدخل معه التقاعد السياسي. إن باراك لا يتفاوض اليوم على السلام ولكن على مصيره السياسي الذي أصبح رهينة إبرام السلام.

والمفاوضون الفلسطينيون باسم الرئيس عرفات كانوا هم كذلك في منتهى الحرج، لأنهم رضوا أن يتفاوضوا ويمدوا ايديهم بالمصافحة إلى الطرف الاسرائيلي الذي جاء يحمل الى واشنطن أوزار حرب عدوانية عاتية شنتها اسرائيل بالسلاح المتطور: بالدبابات والصواريخ والمروحيات الحربية وحصدت فيها أرواح ما ينيف على 300 شهيد مدني بين أطفال ونساء وشيوخ، بالاضافة الى مئات الجرحى بل الآلاف، ولم تتوقف طلقاتها القاتلة حتى والمفاوضات تجري وأخبار سقوط الشهداء تصل في كل ساعة إلى آذان المتفاوضين.

وكان المتفاوضون الفلسطينيون يعلمون ـ وهم يجرون المفاوضات ـ أن فعاليات سياسية فلسطينية لا ترضى عن تفاوضهم، وأن مظاهرات جرت فوق أرض فلسطين لاستنكار الاتصال بالعدو الصهيوني في ظل الحرب الاسرائيلية العدوانية، لذلك كانوا لا محالة في موقع لا يحسدون عليه.

لكن الذين يعارضون إجراء المفاوضات مع اسرائيل في هذه الأوضاع المهزوزة يخلطون بين مفهوم التفاوض ومفهوم التنازل ويعتبرونهما مترادفين، في حين أن التفاوض لا يستلزم التنازل، يمكن للمتفاوض أن يتفاوض على ثوابته التي لا تقبل التنازل ليظفر من خصمه بقبولها والتسليم بها، يمكنه أن يتفاوض على مخطط تطبيقها وليس على مبادئها، وحركات التحرير العالمية حافلة بالأمثلة الشاهدة على الجمع بين وسيلة التفاوض ووسيلة المقاومة ولا تنافي بينهما، كان ذلك في فيتنام، حيث كانت وحدات القتال تواصل نشاطها المسلح في عين المكان بينما يتفاوض زعماء فيتنام في باريس، وتم ذلك في الجزائر، حيث كانت الحكومة الجزائرية المؤقتة تفاوض فرنسا في «إيفيان» وحركة المقاومة والتحرير متواصلة فوق التراب الجزائري، وكان ذلك في المغرب، حيث كانت جبهة الأحزاب الوطنية المغربية تتحدث إلى الحكومة الفرنسية من أجل عودة محمد الخامس إلى العرش وإعلان الاستقلال، بينما كانت حركة الفداء الوطني تحصد أرواح الفرنسيين وعملائهم داخل المغرب، وجيش المقاومة والتحرير يتحرك في الميدان لمواجهة الحماية الفرنسية بقوة السلاح.

ولقد أعلن بواسطة «الشرق الأوسط» عن مشروع الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي أفرزته مفاوضات واشنطن الأخيرة وعلقت المفاوضات من أجله ليقوم كل طرف بالاستشارة حوله مع حكومته، وإذا صح ما جاء فيه فإن ذلك يؤشر الى أن الراعي الأمريكي قد أخذ يبدد الضبابية التي اعترت أفكاره طيلة العشر سنوات الماضية ليتجه نحو الحل الصحيح، وهذا بالرغم من أن هذه الأفكار تعني أن الاتجاه نحو هذا الحل أخذ يمضي بخطى وئيدة، لكن المشروع قابل للنظر فيه، ويمكن إجراء المفاوضات لمراجعته وتقويمه وتحسينه ودفعه أكثر ليقترب من الحل الأممي والشرعية الدولية، لكني ما أظن أن الأجل الذي حدده كلينتون كاف لإبرام السلام العادل المنشود.

وكيفما كان الحال فالأفكار الأمريكية تصلح أن تكون قاعدة للتفاوض عليها، ولا ينبغي أن تقابل بالرفض المطلق كما لا يصح التسليم بها بالجملة لأنها تقف من الحل في منتصف الطريق.

ولا أشك في أن القيادة الفلسطينية تدرك أنها إذا رفضت فستواجه بعد الانتخابات حكومة الليكود المتطرفة، كما لا أشك انها تقيم مقدار قدرة الانتفاضة على الصمود قبل اعداد الجواب، لذا ربما يكون المطلوب مواصلة التفاوض على الأفكار الامريكية لاغنائها بما يجعلها تعكس السلام الشرعي العادل.