التصورات الإسرائيلية للدولة الفلسطينية التفاوضية

TT

يقوم المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين على اسس الربح القومي والاقتصادي، وعلى ضمان ذلك الربح عبر التفوق العسكري والتمييز العنصري لتبرير الفوارق الحتمية لهذه السياسة. ولان عصر الاستعمار الاستيطاني قد ولى من العالم، تغلف الصهيونية افعالها واهدافها بأغلفة دينية، وعاطفية ابتزازية، وهيمنة على الاعلام العالمي بعدة طرق وحتى بأشكال متناقضة مما يسمح لها في معظم الاحيان بتمرير رؤاها وتزييف مواقف الآخرين. هكذا، ورغم عودة المفاوضات واحاديث التفاؤل، لن تصل اسرائيل قريباً الى أي من الاستنتاجات المنطقية، ولن تسهل وصول العالم الى تلك الاستنتاجات... فطالما ان اسرائيل غريبة عن المنطقة ومتصادمة معها في كل شيء، كما يتضح من الحروب المتتالية، فالمنطق يدفعها إما للرحيل عن المنطقة، او تغيير ذاتها والتكيف مع العرب، او تطوير العرب بداية بالفلسطينيين ليرتفعوا الى مصاف اسرائيل! الخيارات الثلاثة متاحة عملياً امام اسرائيل، ولكن كل منها لا يتناسب مع هدف الصهيونية الاستيطاني كمشروع قومي ربحي، وبالضرورة عنصري، اذ بدون التمييز والقهر والسلب لا تتحقق الارباح الصافية الضخمة. كان العرب دوماً على استعداد للتعامل مع أي من الخيارات الثلاثة بداية بنصيبهم باستعادة يهود الدول العربية، والعيش بسلام مع اسرائيل بعد تطبيقها للشرعية الدولية، لا أكثر ولا اقل، مما كان سيفتح المجال لتفاعل عربي ـ اسرائيلي. يكفي هنا التذكير بنشاط الاستخبارات الاسرائيلية لترحيل اليهود العرب من بلادهم، وترحيل اليهود عموماً من أصقاع الارض الى فلسطين، ثم انضمام اسرائيل الى كل من يخاصم العرب وتأليب العالم عليهم، والحروب العلنية والاخرى السرية لمنع التقدم العلمي العربي ومنع وصول التقنية للعرب. من جهة اخرى لا ننسى تعامل الصهاينة الرسمي مع «عرب اسرائيل» الذين حملوا جنسيتها وعوملوا كالغرباء في بلادهم وبيوتهم وفرضت عليهم الاحكام العسكرية ومنع التجول طوال عشرين سنة. كان من الممكن لاسرائيل، بعد نشاطها المحموم لمنع التقدم العربي، على الاقل ان ترفع مستوى عربها حملة الجنسية الاسرائيلية، الى مستوى يهودها فتسجل بذلك سابقة ايجابية كانت ستريحها من عناء عقود من المقاومة الشعبية والمنظماتية في مرحلة ما بعد احتلال الضفة والقطاع. نصف قرن على قيام اسرائيل تحول فيه الشعب الفلسطيني في اسرائيل، كما في الضفة والقطاع وفي الشتات، من مجتمع متقدم بمقاييس الاربعينات الى شعب لاجئ مهضوم الحقوق يعاني من نفس القمع الاسرائيلي الذي حط على الفلسطينيين عام النكبة ثم لاحقهم بالقصف والاحتلال لعقود وحتى الآن... وفي المقابل تحول اليهود من مُطاردين ومنبوذين عبر العالم الى سادة في فلسطين واغتنوا بالارض والمدينة والقرية والبيت والمصنع وحتى التراث الفلسطيني، ولا يريدون الاقتسام، ولا حتى الاعتراف بما صنعوه واقترفوه وسرقوه. في فلسطين كلها لا يوجد يهودي واحد يعمل في ارض ورثها عن ابيه او جده شرعياً، او اشتراها من اصحابها رسمياً، ولا يهودي واحد يسكن في بيت من صنع يديه بالكامل، فغالبية البيوت ما زالت عربية الاصل والصنع والملكية من قبل النكبة، والجديد منها بنته السواعد العربية بالسُخرة... كل الدخل القومي الاسرائيلي من تصدير وسياحة واقتصاد وغيرها ينبع من الارض والاملاك والسواعد الفلسطينية مما جعل متوسط دخل الاسرائيلي يناطح العشرين الف دولار سنوياً، والفلسطيني يزحف على اقل من الفين. ذلك الاختلال يدر مالاً على الاسرائيليين ولهذا ترى الليبراليين واليساريين منهم على استعداد لتقبل الدعاية الذاتية المضللة ضد العرب وصب اللوم على الاخرين، بينما بقية الاسرائيليين والصهاينة يتلبسون الوعد الالهي دون مناقشة وبشكل انتقائي وهم ابعد ما يكونون عن أي تدين اصلاً. من هذا المنطلق وحسب التجربة السابقة وما يطرح الآن في المفاوضات يمكن توقع ان الرؤية الاسرائيلية لشكل ومضمون الدولة الفلسطينية، وليدة المفاوضات في الظرف الراهن، سوف تصب في استمرار الواقع مع تحسينات طفيفة وشعارات رنانة.

في العشرين عاماً الاولى على حياة اسرائيل استفاد اليهود الصهاينة من ثلاثة ارباع فلسطين وكل ما عليها، واستفادوا من تسخير الفلسطينيين الذيين لم يُطردوا من ارضهم ... وبعد احتلال الضفة والقطاع ـ وسيناء والجولان ـ واصلت اسرائيل اعتصار الشعب الفلسطيني فطردت مجموعة اضافية، وحرمت من كانوا في الخارج من العودة، وخالفت الشرائع الدولية والقوانين بالاستيلاء على الارض واقامة المستوطنات ونهب المياه وتخريب الزراعة والصناعة والتعليم الفلسطيني، وطبعاً تسخير السكان، بعد تجويعهم عملياً، في العمل لخدمة الاقتصاد الاسرائيلي بأسعار بخسة وبدون حقوق وتعويضات. ان الحد الادنى في حساب الربح والخسائر يؤكد ان ارباح اسرائيل من الفلسطينيين تفوق الخمسمائة مليار دولار بدون حساب ثمن الارض والعمران الذي فوقها، وانما بحساب الحد الادنى للارباح المتكررة من ثمن مياه، واستغلال ارض، وتسخير عمال... في ثلاث وثلاثين سنة احتلال للضفة والقطاع تراجع مستوى الفلسطيني المعيشي والتعليمي والصحي، وتراجعت البنى التحتية، واصبحت المناطق المحتلة محلات مكتظة لسكن ونوم خدم الاقتصاد الاسرائيلي. في كامب ديفيد الاول بين مصر واسرائيل قدمت اسرائيل رؤيتها للحل السياسي لقضية الفلسطينيين على شكل الحكم الذاتي الذي كان عبارة عن تحصيل لما هو حاصل، وما زال الحكم الذاتي هو جوهر ما تطرحه اسرائيل الآن، او ما ستوافق عليه طوعاً اذا لم تفرض عليها التطورات تغيير رؤيتها. الحكم الذاتي بأسمائه المتعددة يعني ضمانة مزدوجة لاسرائيل، فمن جهة تضمن عدم تطور الشعب الفلسطيني الى درجة اقتصادية وسياسية تؤهله لفرض حل عادل، ومن جهة اخرى يحمل جوهر الحكم الذاتي ضمانة لاسرائيل باستمرار جني الارباح من الارض والانسان الفلسطيني، والانفتاح المنفعي عبر هذا «السلام» على الجيران العرب، وطبعاً حلب العالم اموالاً كثمن لهذا السلام تصب كلها في النهاية في الاقتصاد الاسرائيلي تماماً كما هو الحال الآن، اذ تعود كل الاموال، حتى المقدمة منها للفلسطينيين، تعود الى اسرائيل المهيمنة على السوق الفلسطيني... تبيع للفلسطينيين انتاجها وتقبض منهم ما يصلهم من دعم، وتسترد الاجور المدفوعة للعمال، وتمنع الفلسطيني من الاستيراد من أي دولة اخرى، اذ تشكل الضفة والقطاع اكبر سوق لانتاج اسرائيلي رديء وغالي الثمن. من هذا المنظور السياسي والاقتصادي فأن اتفاقيات اوسلو وتوابعها كلها لا تخرج قيد انملة عن جوهر ومضمون الحكم الذاتي ابن كامب ديفيد الاول، وهذا القول مجرد من أي مبالغة لغوية او انفعالية. التنازل الذي حصل بعد تطبيق اجزاء من اوسلو واقامة السلطة الفلسطينية، هو وجود محاكم وتشريعات محلية وتعليم فلسطيني، ولكن هذه الامور كانت اصلاً مخططة ضمن بنود الحكم الذاتي. اما وجود الشرطة الفلسطينية فليس بالجديد، اذ كانت هناك شرطة فلسطينية تحمل الاسلحة الخفيفة وتنسق مع الشرطة والجيش الاسرائيلي ولكنها لم تكن تتدخل في الاعتقالات السياسية... عموماً بنود الحكم الذاتي كانت ترى توسيع الشرطة الفلسطينية الى ثلاثين الفا، واما اوسلو فقد ادخل نفس العدد ولكن من الخارج ليقوموا ـ حسب اتفاق اوسلو ـ بنفس المهمة. بعد سبع سنوات من المفاوضات وكامب ديفيد الثاني الفلسطيني ـ الاسرائيلي، واثر الانتفاضة الثانية الجارية الآن، تغيرت الاسماء وبقي المضمون لما تطرحه اسرائيل من حلول بدعم اميركي، ومؤخراً للاسف بدعم اوروبي. لا يوجد أي طرح يتعامل مع القضية بأصالة وعدالة على ضوء الشرعية الدولية مثلاً، او على ضوء التجربة الفاشلة والنتائج الكارثية على الفلسطينيين من الرؤية والتطبيق الاسرائيلي القزمي... لا يطرحون تطبيق قرار التقسيم الذي اعترفوا بأسرائيل على اساسه، لايطرحون تطبيق الانسحاب من كل الضفة والقطاع والقدس، لا يطرحون تطبيق القرارات الدولية حول اللاجئين وحقهم بالعودة، وفي هذه القضية بالذات يثبتون عنصريتهم. بمراجعة أي حل مقترح من اسرائيل او الغرب هذه الايام سنرى فيه بجلاء بقاء حدود الضفة والقطاع تحت الاشراف الاسرائيلي... بقاء الامن الفلسطيني للبشر والحجر تحت رحمة اسرائيل تقصف وتدمر ما تريد وبالشدة التي تعجبها «كرد» على ما لا يعجبها، أي لن توجد قوة او ضمانة محلية او عربية او دولية فعالة تحمي الفلسطينيين او تردع اسرائيل... كل حل موقع الآن سُيقدم تنازلات سياسية فلسطينية لاسرائيل غير قابلة للاسترداد وبدون مقابل مضمون... السوق الفلسطينية ستبقى رهينة للانتاج الاسرائيلي... والانسان الفلسطيني سيبقى مسُخراً يلهث يومياً في طوابير خدمة الاقتصاد الاسرائيلي بينما الاجيال والبنى والاسس المجتمعية الفلسطينية تذوب بحكم الواقع المفروض. تلك هي رؤية اسرائيل للحل باستمرار المشروع الصهيوني المتطور دوماً على حساب الشعب الفلسطيني حتى في ظروف هذا العالم التي تغيرت عن حقبة قيام الصهيونية، ذلك ليس تحليلاً او تخمينا، انما هو صورة ما نرى ونسمع، ولن يتغير الحال الا بتنشيط العوامل العديدة لقلب موازين الربح والخسارة.