سؤال لايزال يبحث عن إجابة: لماذا جرى ما جرى ؟!

TT

منذ الحدث الكبير يوم 11 سبتمبر 2001 والدنيا غير التي نعرفها. ليس اكتشافا مذهلا أن يقول المرء أن عصرا جديدا قد بزغ بعد ذلك اليوم الرهيب حينما اختطف انتحاريون ينتمون لمنظمة القاعدة ثلاث طائرات صدموا بهن برجي التجارة في نيويورك ومبنى (البنتاغون) في واشنطن، مخلفين وراءهم، آلاف القتلى والجرحى، وسؤالا كبيرا يتوكأ على الأنقاض: ماذا جرى؟!

أُخذ الجميع على حين غرة، أرحب الناس خيالا لم يصمم سيناريو يضارع ما قام به فتية القاعدة التسعة عشر! صعدت إلى السطح أشياء وغارت في الأعماق أشياء أخرى، انعقدت ألسنة، وانطلقت أخرى! لقد كان النصل الذي اخترق خاصرة أميركا في ذلك الثلاثاء الرهيب، طويلا إلى الدرجة التي مكنته من اختراق الكثير من العقول والبنى الماضية.

إذا التقطنا المشهد من الزاوية الأميركية فسنجد ارتفاعا طاغيا في الروح الوطنية المشوبة بنزعة عسكرية، روح تقدم الحسم على لغة الخيارات المتعددة، روح على عجلة من أمرها، مدفوعة بلهب النار التي اندلعت في مساء (مانهاتن) وسمائها، علقت أميركا الجرس، واستعاضت بتكشيرة رامسفيلد عن محيا باول! حتى في أميركا (لاصوت يعلو فوق صوت المعركة)! إنها (حرب) مع القاعدة والإرهاب مسرحها الأرض كلها (سنلاحقهم في كل مكان) كما قال جورج بوش حامي أميركا. لا مكان يحمي الإرهابيين، أضاف بوش!

حررت أميركا عنفوانها العسكري، أسقطت طالبان، التي رفضت تسليم أسامة بن لادن زعيم (القاعدة)، الذي خرج منتشيا بما قام به الفتية الذين امنوا بربهم ومرّغوا منقار النسر الأميركي، لكن النسر الأميركي بسط أجنحته على قمم (تورا بورا) التي كانت آخر ملجأ معروف لزعيم القاعدة، وقتلت من قتلت وأسرت من أسرت من القاعدة، أو من يشتبه به انه كذلك، وفتحت معسكرات خاصة بهم.

هل تخلت أميركا عن دستورها، وعلقت العمل بحقوق الإنسان لحين الفراغ من المعركة مع الإرهاب؟! البعض لاحظ ذلك، ووبخ أميركا على غدرها بهذه الحقوق. فكما ذكرت منظمة (مراقبة حقوق الإنسان) في تقريرها الصادر في15 أغسطس 2002 أن تحقيقات الحكومة الأميركية في هجمات الحادي عشر من سبتمبر شابتها انتهاكات لحقوق الإنسان من قبيل الاعتقالات التعسفية والإخلال بحق المعتقلين في إجراءات قضائية منصفة وإلقاء القبض على الأشخاص بصورة سرية. فقد أساءت وزارة العدل الأميركية استخدام التهم المتعلقة بمخالفة قوانين الهجرة للتملص من الضوابط القانونية.

وذكر التقرير أنه قد ألقي القبض سراً على حوالي 1200 شخص من غير المواطنين واحتجزوا في إطار تحقيقات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، وإن كانت الحكومة لم تكشف عن عدد هؤلاء على وجه الدقة؛ والغالبية العظمى منهم من بلدان الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشمال أفريقيا. وقالت جيمي فيلنر مديرة برنامج الولايات المتحدة بمنظمة (مراقبة حقوق الإنسان):

"إن الحكومة الأميركية لم تراعِ نفس القيم بعينها التي أعلن الرئيس بوش أنها قد اعتُدي عليها في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)؛ وقد تجاهلت الضوابط الأساسية على سلطة الحكومة في اعتقال الأفراد، والتي تعد سمة مميزة للأمم الحرة والديمقراطية".

إلا أن هناك أراء تشير إلى أن أميركا، رغم فداحة وهول ما أُصيبت به، لم تترك دستورها وقيمها التي أكسبتها الفرادة الأميركية، ويذكرون كيف هبّ الرئيس الأميركي لإطفاء شرر الحقد الديني الذي بدا يتوهج بين الأميركان ضد مواطنيهم المسلمين، وانه سارع إلى زيارة مساجد المسلمين وأدان كل الاستهداف الديني للمسلمين ونقد المشاعر العدائية ضدهم ودافع عن الدين الإسلامي، وبرأّه من تبعات هجوم 11 سبتمبر، حاصراً المعركة مع (المتعصبين) من أبناء المسلمين وليس المسلمين كلهم، وراق لبعض الكتاب العرب أن يتصور لو أن هذه الهجمات التي أصابت أميركا، قد وقعت في احد بلدان العالم العربي أو الإسلامي، كيف سيكون الرد ؟! وذكّر القراء بأفاعيل الأنظمة العربية ضد من تشتبه بمعارضته للنظام، وان هناك مدنا كاملة أبيدت أو قُصفت بالأسلحة المحرمة لغضب النظام عليها!

المراقب العربي الموضوعي لا يملك إلا أن يرفض الهيستريا الأمنية التي أصابت الإدارة الأميركية، متجاوزة كثيرا من المعايير المعتادة في الدول المتحضرة، لكنه في القوت نفسه يستغرب من هذا الحس المرهف المفاجىء الذي استيقظ لدى بعض الكتاب القوميين الذين باركوا عبد الناصر وصدام حسين وغيرهما في الأمس القريب، أو لدى الكتاب الإسلاميين الذين هللوا لطالبان ومحاكم الثورة الإيرانية وبيوت الأشباح في السودان!

وبعيدا عن هذا الحديث، لابد لنا بعد هذه السنوات الثلاث التي مرت على هجمات 11 سبتمبر أن نلاحظ أن هذه الخضّة الكبرى لم توقظ أسئلة أميركا وهواجسها فقط، بل وبعثت الأسئلة العربية والإسلامية المجمدة في سيبريا الركود الإسلامي منذ قرون، رغم سخونة المحاولات التي قدّمها المفكرون منذ قرن أو أزيد لايجاد الممر الذي ينفذ منه المسلمون إلى مروج الحضارة الإنسانية المعاصرة.

ربما يحتاج السادر في غيبوبته إلى صرخة هائلة ودويّ رهيب حتى ينتفض وتسري فيه سخونة الروح، لعله كان بحاجة إلى جزء من لحمه الحي ُيضرب حتى تحصل معجزة بقرة بني إسرائيل، ويعانق الحياة من جديد، فبعض القتل أنفى للقتل !

لقد كانت الثقافة التي أنتجت 11 سبتمبر مرتاحة غافية في مسلماتها، ولم تر يوما في مرآة الخسائر والمكاسب عواقبَ تحقّقها في الواقع واستبدادها بالتأثير، حتى انتصبت مرايا 11 سبتمبر العملاقة، لترى، ويرى معها المسلمون، ملامحَ الوجه الكاملة لهذا النمط من الثقافة. إنها أزمة الهوية وأزمة الحداثة ومعضلة الانتقال التي ُنراوح فيها منذ فترة طويلة.

إنها ثقافة لا تريد الإقرار بعجزها، في وضعها الحالي، عن الصعود إلى تحدي التنمية والحداثة، كانوا يظنون أنهم باقون في أماكنهم دون تزحزح إلى الأمام، كانت مشكلات المسلمين كلها، في نظرهم، ُترّد دائما إلى عامل خارجي، أو داخلي متأثر بعنصر خارجي، لم يسألوا يوما: ماذا لو كان الداء منا وفينا!؟

هل ما يقوم به الاصوليون الإسلاميون من عنف، تعبير عن الإحباط بسبب الحرمان الاقتصادي والسياسي، اتخذ مظهرا دينيا أيديولوجيا، بعبارة أخرى إخفاقٌ داخلي لدى المسلمين انفجر إلى الخارج في شكل أعمال عنف كان أبرزها هجمات 11 سبتمبر كما هي رؤية الانثروبولوجي (كليفورد غيرتز)؟! الذي يرى أن الدين، أي دين، ماهو إلا تجسيد للتصورات والمجازات التي يتبعها الأتباع، وبالتالي فان تطور الدين، كما يؤكد غيرتز، مرهون بخصوصيات التجربة المحلية لكل فئة على حدة، فالثقافة المحلية هي التي تؤثر على الدين في الدرجة الأولى، وهذه النظرة الانثروبولوجية من غيرتز ترفض تصوير الإسلام بوصفه، جوهريا، ضد الحداثة والتحديث.

لكن هناك فريق آخر من الباحثين الغربيين الذين يتحدثون عن الإسلام لا يتفقون مع هذه النظرة، ويرون أن هناك مشكلة جوهرية في الإسلام، وهذا ما يذهب إليه الانثروبولوجي الآخر (ارنست غلنر) الذي كتب دراسات عن الإسلام والشرق الأوسط، فهو يؤكد أن "الإسلام يملك جوهراً ثابتا تتوالى عليه الدهور فيتغير المظهر دون الجوهر، ومعنى ذلك أن الأصولية أصيلة فيه، وفي ظروف الأزمات تعود للظهور باعتبارها الجزء الأصيل من ماهيته". لكن الذي تردد ظهوره أكثر في وسائل الإعلام الغربية بعد 11 سبتمبر هو المستشرق الكلاسيكي الشهير (برنارد لويس) وموضع اختلاف لويس عن غلنر يكمن في المنهج، وإلا فإن النتيجة واحدة، فقد تكّون للإسلام عبر تاريخه وتطوراته آليات معروفة سادت إبان زمن القوة والمجد، وعليه فان المسلمين عجزوا، أو امتنعوا، إن شئنا الدقة، عن الدخول في الحداثة التي صنعها الغرب على عينه، لأن هذا الدخول يعني التبعية للغرب، وقد نجم عن ذلك شعور حارق بالخيبة واندلعت مشاعر عدائية عالية ضد الغرب، ومن هذا المنظور فإن الأصولية الإسلامية الحالية ما هي إلا تعبير عن هذا الغضب و الامتناع على الحداثة والديمقراطية الغربية. الناجي الوحيد من مصيدة هذا الشعور هو مؤسس تركيا الحديثة (كمال أتاتورك) الذي خلّص تركيا من هذا الشعور من خلال تخليصها كلية من الإسلام! هكذا يفسر (بطريرك) الإسلام الحديث برنارد لويس، سبب الأصولية الإسلامية! (فصلية الاجتهاد العدد الرابع والخمسون السنة الرابعة عشرة الجزء الأول ص48)

تفسير غيرتز للأصولية الإسلامية، الذي ينطوي على موقف ايجابي من الإسلام بنفي جوهرية الأصولية عنه، ورؤية غلنر ولويس للأصولية الإسلامية بوصفها ثابتة في الإسلام، مع اختلاف المنهجين بين الأخيرين، كل هذه التفسيرات لم تأخذ به كثيرٌ من الكتابات العربية بعد 11 سبتمبر، وعللّت ظهور الأصولية الإسلامية، وبعض الاتجاهات اليسارية والقومية الراديكالية لدى المسلمين، بعلة الظلم السياسي الذي ألحقه الغرب بالمسلمين وقضاياهم بدءا بفلسطين ومرورا بكشمير واندونيسيا والفلبين والشيشان وكوسوفو..، وبالتالي فهي مشكلة في السياسة الغربية إزاء المسلمين في المقام الأول، وليست مشكلة ثقافية لدى المسلمين!؟

ربما يكون من السهل القول إن تفسير العنف الإسلامي مزيج من كل هذا، ولكن بنظرة أعمق تبدو لنا الصورة بشكل مغاير! وهذا ينقلنا الى الحديث عن النظرة إلى 11 سبتمبر من الزاوية الإسلامية والعربية.

تباينت القراءات للحدث الكبير في كتابات المثقفين العرب والمسلمين، أغلبها ركز على تسبب السياسة الأميركية الظالمة في إلهاب التعصب الديني لدى المسلمين بسبب انحيازها السافر لإسرائيل ضد الفلسطينيين، واعتدائها على ثقافات الأمم الأخرى، وإصرارها على أمركة العالم، وعدم إصغائها إلى نصائح إخوانها الأوروبيين فيما يخص موضوع الصراع العربي الإسرائيلي، وحتى موضوع البيئة الذي عاند الأميركيون فيه الأوروبيين. كما ركزت انتقادات الكتاب العرب والمسلمين على غدر أميركا بالشعوب المسحوقة، وعدم مساعدتها على تحقيق الديمقراطية، وتحالف أميركا مع الحكام الديكتاتوريين!

وهي انتقادات متنوعة، بل ومتناقضة، كما نرى، فإذا كانت أميركا متهمة بضغطها على ثقافات الشعوب الأخرى وأمركتها، فكيف نطالبها في نفس الوقت بتحقيق الديمقراطية لهذه الشعوب التي ترى ثقافتها أن المسألة الديمقراطية (أجنبية) عنها، ومنافية لهويتها الثقافية!

إذن: ماذا نريد من أميركا بالضبط؟!

إنه هاجس أرعش العقل العربي، وحال بينه وبين التفكير الخالي من ضباب الألم! أميركا ليست البابا نويل، لكنها ليست الشيطان الرجيم أيضا! إنها دولة تؤمن بصوابية نموذجها الحضاري والثقافي، تسعى إلى تعميم هذا النموذج، خصوصا لدى المحافظين الجدد منها، وهي حينما تفعل ذلك، فهي تفعله لتحقيق وحفظ مصالحها الحيوية على المدى الطويل، مرة أخرى أتحدث هنا عن فلسفة المحافظين الجدد الذي يرفضون الانكفاء الأميركي وترك العالم (المتخلف) دون تحديث، وسواء صدّقنا أو كذبنا هذه الرغبة الأميركية، إلا أنها هي الغطاء الأخلاقي الذي تتحرك تحته العسكرية الأميركية خصوصا بعد 11 سبتمبر.

نحن المسلمون، لدينا أزمة كبرى تلقي بظلالها على الاقتصاد والسياسة والاجتماع، هل مصدرها الفكر والثقافة أم الإخفاق الاقتصادي والتنموي؟ هذا هو السؤال الذي اختلفت إجابات المثقفين العرب والمسلمين عليه، كما اختلفت مواقف المثقفين المسلمين من المقاربات الغربية لتفسير الظاهرة الأصولية، فبينما يميل محمد أركون إلى منهج غيرتز ويرى ضرورة الإفادة من المنهج الانثروبولوجي في علم النفس واللغة والتاريخ والفلسفة واللاهوت، ويؤكد ،حول كيفية دراسة الفكر الإسلامي،على الانطلاق من القرآن وتجربة المدينة لأنهما أدخلا شكلا من الحساسية والتعبير ومقولات فكرية ونماذج للعمل التاريخي ومبادئ لتوجيه سلوك الفرد، كما يهتم بجانب اللغة و"وضع اللغة وطريقة التعبير السائدة والمفردات المستخدمة وعلاقة ذلك بالزمن ومشروطيته" حسبما يشرح الباحث حيدر إبراهيم علي. هناك من يميل إلى النظرة الجوهرية لغلنر أو النظرة التاريخانية والسيكولوجية للويس في تفسير الأصولية الإسلامية مثل الباحث الأميركي ذي الأصل اللبناني فؤاد عجمي.

أما الإسلاميون فهم رافضون أصلا لكل هذه التفسيرات، وربما لا يقرّ الكثير منهم بوجود أصولية فاشستية في العالم الإسلامي، أو يقرّ بها لكنه يحجرها في أضيق النطاقات ولا يراها سببا مزمنا لتخلف المسلمين، فالمشكلة في جوهرها، ذات سببين خارجي وداخلي:

أما الخارجي وهو المهم، فهو حالة التسلط الغربية على المسلمين التي آلت رايتها إلى أميركا بعد أفول الهيمنة البريطانية والفرنسية، هذه الهيمنة هي التي سلبت المسلمين حقوقهم، وأغرقت الأرض بماديتها الجشعة وحاربت النور الإلهي المتمثل في مبادئ الإسلام، ومن هنا نستطيع تفسير الغضب الإسلامي على الغرب الذي (ربما) يأخذ أشكالا حادة ومتطرفة في ردة فعل على (التطرف) الأميركي والغربي.

وأما السبب الداخلي لهذه الظاهرة فهو تنكّر النخب السياسية العربية لهوية الأمة الإسلامية وتراجعها عن تمثل هذه القيم في نمط إدارتها للمجتمع والسياسة، وتقليدها للنموذج الغربي الدخيل، باختصار: عدم تطبيقها للشريعة الإسلامية! هكذا، تقريبا، يفسر الإسلاميون سبب (الغلو) الإسلامي أو ظاهرة الأصولية الإسلامية كما تصفها الدراسات الحديثة.

في نهاية الأمر، الجميع يقر بوجود أزمة ما لدى المسلمين، يختلفون في توصيفها، في تعليلها، ولكنهم لا ينفون وجودها الموضوعي. إذن كيف نتخلص من هذه الأزمة التي تجعلنا نعيش حالة دائمة من الطوارىء ؟!

سؤال صعب كبير ومعلق منذ أزيد من قرن، وعلى كرّ الليالي والدهور تحجّر هذا السؤال ولم تفلح الأمطار التي هطلت عليه في تليينه أو نقله من حالة التحجر، ربما تكون (مطرقة) 11 سبتمبر الهائلة هي التي تنجح في تفتيت هذا الحجر...!

[email protected]