تحديات الإصلاح في بيئة إقليمية ودولية مضطربة

TT

تمكنت أغلبية بلدان مجلس التعاون الخليجي، خلال السنوات الخمس التي سبقت وقوع أحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة، وبفضل الاستقرار النسبي الذي تحقق خلال تلك الفترة، من وضع خطط إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، حظيت بقدر مناسب من القبول الشعبي. ولكن الآن، وبعد مرور عامين على أحداث سبتمبر، وما أعقبها من تطورات تمثلت في الحرب ضد الإرهاب، وتغيير النظامين الحاكمين في أفغانستان والعراق، ووقوع العراق في قبضة الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني، تمر عملية الإصلاح بمرحلة حساسة، وقد بدأ كثير من الناس ينظرون إليها كنوع من الاستجابة لضغوط أمريكية.

وقد أصبح الهم الشاغل لمعظم حكومات بلدان المنطقة، هو العمل على إضعاف العناصر المتشددة وتهميشها. ونظرا لأن بعض المواطنين في الدول الخليجية يرون أن الحرب ضد الإرهاب ما هي إلاّ حرب ضد الإسلام، تحاول الحكومات تهدئة مواطنيها وتلطيف الأجواء معهم من جانب، كما تحاول، من جانب آخر، الحفاظ على تحالف استراتيجي رئيسي مع الولايات المتحدة التي تلعب الدور الرئيسي في المنطقة. وفي ظل هذه الأوضاع، ظلت حكومات دول المنطقة تعبر عن حالة من القلق جراء عدم إصغاء الولايات المتحدة للتحذيرات التي تقول إن سياساتها الحالية التي تنتهجها في الشرق الأوسط، يمكن أن تخلق مزيداً من الاختلالات في المنطقة التي تعيش أصلاً حالة من الاضطراب.

وشهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وبعض بلدان مجلس التعاون الخليجي تراجعاً مفاجئاً خلال الفترة الماضية، خصوصاً العلاقات السعودية ـ الأمريكية. فبعد أن وجدت السعودية نفسها في مواجهة مباشرة لدحض الادعاءات التي تربط المملكة العربية السعودية بأحداث 11 سبتمبر، شعر كثير من السعوديين بأنهم استُهدفوا بشكل غير عادل عبر الحملات الأمريكية التي تتهم النظام التعليمي والمؤسسة الدينية في السعودية بالمساعدة على نشر التطرف واستثارة الشعور المعادي للغرب.

وظهرت بوادر آثار وتراكمات الحادي عشر من سبتمبر من خلال الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من الأراضي السعودية، وتحويل مركز قيادة القوات الجوية من قاعدة الأمير سلطان في الخرج، قرب الرياض، إلى قاعدة العديد الجوية في قطر، كما تُعتبر المساعي الحثيثة الحالية الرامية إلى تقوية الروابط السعودية ـ الروسية أيضاً جزءاً مهماً من تلك الآثار والتراكمات.

ومن المتوقع أن تشهد علاقات الولايات المتحدة ببلدان مجلس التعاون الخليجي مزيداً من التغيير خلال الفترة المقبلة، وذلك نظراً إلى الخطط العريضة التي وضعتها وزارة النفط العراقية العاملة تحت الإدارة الأمريكية، والتي تسعى إلى الوصول، خلال السنوات القليلة المقبلة، إلى أعلى معدل إنتاجي حققه العراق في فترة ما قبل الحرب، وهو ما يعادل 6 ملايين برميل في اليوم، مع أن ذلك يبقى صعب التحقيق قبل استتباب الأوضاع السياسية والأمنية في العراق، واستعادة التعاون مع دولة المنطقة وتوفير التمويل اللازم.

أما إذا استمرت الفوضى في العراق فإن الأزمة في إيران قد تتفاقم أكثر، فقد استطاعت الولايات المتحدة استغلال فرصة التصدع المستمر بين المحافظين والإصلاحيين، وضاعفت من الضغوط مطالبة طهران بوقف برنامجها النووي، وكنتيجة لذلك، أعاق المحافظون الخطط الإصلاحية التي وضعتها الحكومة، وفتحوا باب المواجهة بين واشنطن وطهران، الأمر الذي أثار مخاوف كبيرة في أوساط حكومية وشعبية من حدوث ثورة إسلامية أخرى على نمط ثورة 1979 نفسها. وبالرغم مما يشاع عن اجتماعات غير معلنة بين واشنطن وطهران لاحتواء الشيعة في العراق مقابل تخفيف الضغوط على طهران، إلاّ أنه لا يمكن الاعتماد على ذلك كضمانه للسيطرة على الأوضاع، وخصوصاً في حال نشوب صراع بين فصائل الشيعة نفسها.

ومن المؤكد أن هناك الكثير من الجوانب الإيجابية التي أبرزتها الفترة الماضية، فقد أصيب أتباع الفصائل المتشددة بهزة عنيفة، وتزايد الشعور بالهزة أكثر بعد تفجيرات 12 مايو 2003 في الرياض، والتي نظر إليها الكثيرون على أنها سبتمبر الخليج. ورافق ذلك ظهور رفض شعبي للجماعات المتشددة، مع التأكيد، في الوقت ذاته، على الالتزام بالإسلام في أصوله الصحيحة كما جاءت في القرآن والسنة، كما تزايدت المطالب الشعبية بالتغيير والإصلاح الشامل والتدريجي، وذلك من منطلق الاقتناع بأن هذا هو الطريق الصحيح لتحقيق الاستقرار وتعزيز الشرعية وتجديد العقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع.

وانطلاقاً من قناعته بفكرة التغيير الواسع، أعلن الأمير عبد الله بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي، مبادرته التي أسماها ميثاق إصلاح الوضع العربي، والتي أكدت على أن الإصلاحات الداخلية في البلدان العربية كافة والتمثيل السياسي الواسع، هما الشرطان الأساسيان للتنمية. ودعا الأمير عبد الله كذلك، إلى حوار وطني بين المثقفين، وأصدر وثيقة بيّـن فيها رؤيته لعالم عربي أكثر تقدماً يحظى فيه المواطنون بفرص تعليمية أفضل تمكّنهم من المنافسة في عالم الاقتصاد الحديث، وقد أعقب ذلك اتخاذ سلسلة من الإجراءات التي تصب، في نهاية المطاف، في مجرى الإصلاح، ولم تُغفل قضايا المرأة في بعض المجالات.

وتماشياً مع ذلك الفهم، حرصت السلطات السعودية على محاصرة أي بؤر أو جماعات تسيء إلى الإسلام الذي هو دين التسامح والعلم والعقل واحترام الكرامة الإنسانية في أوسع معانيها. كما حرصت الدولة على مراجعة المقررات الدراسية من منظور وطني، بهدف إصلاح النظام التعليمي برمته، والذي هو مكون رئيسي في أي منظومة وطنية للإصلاح، تقوم على تحقيق التوازن بين الخصوصية الدينية والهوية الحضارية من ناحية، ومتطلبات العصر ومستجداته من ناحية أخرى، ومن هنا جاء قرار السلطات السعودية بتطوير تدريس اللغة الإنجليزية في المدارس السعودية واعتبارها مادة أساسية، وذلك ابتداءً من الصف السادس الابتدائي اعتباراً من العام المقبل، على أن يتبع ذلك المزيد من إجراءات تحديث قطاع التعليم.

وفي إطار الإصلاح التعليمي تحركت دولة قطر في نفس الاتجاه ومنحت امتيازات مغرية لجامعات أمريكية، مثل جامعتي كورنيل Cornell وكارنيجي ميلون Carnegie Mellon، وذلك لتشجيعها على بدء تشغيل كليات الطب وإدارة الأعمال في البلاد. كما ازداد عدد الكليات والجامعات الخاصة في كل من الكويت والسعودية.

لقد حرصت الحكومات على توفير ضمانات عدم وصول أي أموال تُجمع تحت غطاء العمل الخيري إلى منظمات وجماعات إرهابية، وقد جاء ذلك في إطار تنفيذ قرارات دولية بشأن تنفيذ آليات لمحاربة غسيل الأموال والحد من تدفق «الأموال المشبوهة». كما اهتمت الحكومات بتطوير نظم وآليات عمل الجمعيات الخيرية بما يحفظ لهذا العمل هدفه النبيل ورسالته السامية.

لا يمكن القول ان دول مجلس التعاون مرتاحة للخطة الأمريكية المتعلقة ببرنامج دعم الديمقراطية، الذي افتتحت له واشنطن مكتبين في العالم العربي احدهما في البحرين والآخر في تونس، وذلك لقناعة هذه الدول بأن الديمقراطية لا يمكن أن تفرض بقرار من واشنطن، أو من خلال تخصيص مبلغ 29 مليون دولار. ولكن ربما توصلت حكومات دول المجلس إلى قناعة مفادها بأن مفهوم الرفاه لم يعد كافياً لكسب رضى الشعوب، الأمر الذي دفعها إلى إجراء إصلاحات لم ترق بعد إلى تطلعات شعوبها.

وانطلاقاً مما سبق نستطيع القول، إن الخطوات الإصلاحية المهمة التي اتخذتها دول المجلس على الصعيد السياسي خلال السنوات القليلة الماضية هي محل تقدير، ويجب أن تتواصل، ومنها على سبيل المثال، تطوير نظام للانتخابات العامة في سلطنة عمان، وهناك انتخابات مجلس الشورى التي يتوقع أن تجري في الفترة المقبلة، والاستفتاء الذي أجرته قطر على دستور البلاد في أبريل الماضي، إضافة إلى انتظام إجراء الانتخابات العامة في الكويت، واتخاذ قرار بالفصل بين منصبي ولي العهد ورئيس الوزراء، وهي الخطوة التي تمت في يونيو الماضي. وفي البحرين تجسدت أهم خطوة إصلاحية في إجراء الانتخابات البرلمانية في أكتوبر الماضي بعد غياب دام أكثر من عقدين من الزمان.

وفي إطار برامج وخطط تنويع مصادر الدخل التي تتبناها دول مجلس التعاون الخليجي، هناك اتجاه نحو إعطاء الأولوية للصناعات المرتبطة بالنفط والغاز، وذلك نظراً لقلة تكلفة تلك الصناعات. كما أن هناك اهتماما أيضا بتوسيع الصناعات والقطاعات غير النفطية لمواجهة الحاجة الكبيرة للتنمية.

وتقوم دول الخليج بإجراء إصلاحات ضخمة في مجال الخصخصة، وذلك من أجل رفع معدلات النمو الاقتصادي ورفع مستويات معيشة المواطنين وتخفيض معدلات البطالة. وبالفعل تم فتح العديد من القطاعات أمام الاستثمارات الخاصة، بما فيها قطاعات الطيران المدني والاتصالات والرعاية الصحية وإدارة الطرق السريعة والصناعات البتروكيماوية. ولمواجهة كل تلك التطورات هناك جهود لتطوير القطاعات المالية والتمويلية والمصرفية، بحيث تكون أكثر مواءمة للأجواء الاستثمارية والتجارية الجديدة.

وقبل الحادي عشر من سبتمبر 2001، بلغ حجم التجارة الأمريكية مع بلدان الشرق الأوسط 65 مليار دولار، لكن ذلك المعدل تراجع بنسبة 20 ـ 26 في المائة في نهاية عام 2002، الذي شهد أيضاً أدنى معدل للصادرات الأمريكية إلى المملكة العربية السعودية خلال الأعوام الاثني عشر الماضية.

واستناداً إلى التقارير التي تحدثت عن عودة رؤوس الأموال الخليجية من الولايات المتحدة، حيث سحب العديد من رجال الأعمال الخليجيين استثماراتهم من الولايات المتحدة، فإن القاعدة المالية في دول المنطقة شهدت توسعاً كبيراً خلال الفترة الماضية، وهو الأمر الذي اتضح بشكل جلي، من خلال انتعاش الأسواق المالية في تلك الدول، والتي تحاول الاستفادة من تلك الفرصة، واستخدام الاستثمارات المحلية والخليجية لدفع عمليات الإصلاح الاقتصادي وتحقيق المزيد من النمو. وقد ظلت هذه البلدان توصف دوماً بأنها غنية من حيث الموارد، لكنها ضعيفة من حيث التنمية.

ومن جانبها، وسعياً منها إلى وقف التدهور الحالي في التدفق التجاري بينها ودول المنطقة، اقترحت الولايات المتحدة إنشاء منطقة تجارة حرة تسمى «منطقة التجارة الأمريكية ـ الشرق أوسطية الحرة»، على أن يتم ذلك خلال عشر سنوات من الآن. وبعد أن ناقشت أمر إنشاء المنطقة الحرة في الأردن والمغرب تتجه الولايات المتحدة حالياً، نحو بلدان مجلس التعاون، حيث تناقش حالياً مقترحاً لاتفاقية تجارة حرة مع البحرين.

ليس من شك في أن أحداث 11 سبتمبر غيرت المحيط الجغرافي السياسي لمنطقة الخليج. ومن الواضح أن بلدان المنطقة تمر بفترة عصيبة في تاريخها، إذ إن قرارات وسياسات وأحداث هذه الفترة سترسم المنهج الذي سيحدد مصير الشعوب لأجيال عدة مقبلة.

وخلاصة القول: إن تداعيات أحداث سبتمبر وحرب الخليج الثالثة لم تنته بعد، وهناك الكثير من التحديات والاستحقاقات التي يتعين على دول المجلس مواجهتها خلال المرحلة المقبلة، خاصة أن الخليج العربي سيكون ساحة لتفاعلات وتجاذبات إقليمية ودولية معقدة، وليس من سبيل أمام هذه الدول للتعامل بقدر من الفاعلية مع الوضع الراهن والمستجدات، إلا مواصلة جهود الإصلاح على الصعيد الداخلي، واتخاذ خطوات جدية من أجل تفعيل دور مجلس التعاون الخليجي، وتبني استراتيجية موحدة للتعامل مع المسألة العراقية وتداعياتها، لأن مستقبل المنطقة يرتبط في جانب هام منه بمستقبل العراق.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]