كيس ملاكمة آخر

TT

حتى اللحظة الأخيرة، كان الرهان الأميركي ـ الإسرائيلي، على أن يتمكن محمود عباس من الانتصار بالنقاط على الرئيس ياسر عرفات، في تلك الملاكمة غير المتكافئة، التي انخرط فيها منذ تشكيل الحكومة الفلسطينية، التي اعتُبرت منطلقًا لتجريد عرفات من مسؤولياته شبه الشاملة.

وقياسًا بممانعة عرفات واستمرار آرييل شارون في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين، وعدم تقديم الأميركيين أي مساعدة ذات معنى، بدا أبو مازن تمامًا كما وصفته هذه الزاوية في «الشرق الأوسط»: «مجرد كيس ملاكمة!».

الآن خرج عباس ليدخل أحمد قريع، لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان: هل سيستطيع أبو العلاء أن يلاكم، أو أنه سرعان ما سيواجه العراقيل والصعوبات التي واجهها سلفه؟

هناك فرق واحد بين الاثنين، وهو فرق مهم في اطار السلطة الفلسطينية، لكنه لن يكون كافيًا على الاطلاق، هذا الفرق يتمثل في أن أبو العلاء يحظى بمظلة عرفات، بينما استأثر أبو مازن بعدائه. والواقع أن الرئيس الفلسطيني ردّ بضربة مباشرة ضدّ الأميركيين والاسرائيليين، عندما أفهمهم، عبر استقالة أبو مازن (أو دفعه إلى الاستقالة بعد إحراجه فإخراجه كما يقال)، بأنه ما زال يمسك بالقرار الفلسطيني المطلق.

«الأمر لي»، هذا ما أراد عرفات أن يثبته عمليًا، ولكن خروج أبو العلاء من رئاسة المجلس التشريعي إلى رئاسة الحكومة بديلاً من أبو مازن، لن يغيّر شيئًا من قائمة المطالب المعقدة والمستحيلة التي كان يواجهها سلفه، أضف إلى ذلك أن أبو العلاء لا يحتاج فقط إلى غطاء عرفات، بل إلى ما هو أهم، أي إلى ثلاثة أمور تبدو الآن أصعب مما كانت قبل ثلاثة أشهر وهي:

أولاً: تعاون المنظمات الفلسطينية، أي «حماس» و«الجهاد» في مسألة التزام الهدوء الكامل، الذي تريده إسرائيل نزعًا للسلاح وتفكيكًا لهذه المنظمات. وهو أمر صعب ومستحيل في ظل حرب الإبادة الشاملة، التي وصلت نهاية الأسبوع إلى حد محاولة اغتيال الشيخ أحمد ياسين.

ثانيًا: استحالة قبول إسرائيل بمبدأ اعطائه فرصة لاعادة ترتيب أجواء الهدنة، على خلفية العودة إلى تنفيذ مستلزماتها المحددة في «خريطة الطريق»، أي الانسحابات ووقف عمليات الاغتيال، واطلاق الأسرى، ووقف بناء جدار الفصل، ووقف الاستيطان.

العكس هو الحاصل، حيث يشن شارون حرب إبادة معلنة ضد قيادات «حماس» وكادراتها، وهو ما يجعل الحديث عن الهدنة أو الهدوء مستحيلاً.

ثالثًا: استحالة تقديم واشنطن يد المساعدة إلى أبو العلاء، أولاً لأنه حل في محل أبو مازن، في ما بدا أنه صفعة من عرفات كما قلنا، ثانيًا لأن المطلوب منه سيكون تمامًا هو الذي كان مطلوبًا من سلفه وبتزمّت هذه المرة، وثالثًا لأننا نقترب أكثر من مواعيد الانتخابات الأميركية، وهو ما يخفف من الاهتمام الأميركي بتفاصيل ما يتصل بـ«خريطة الطريق»، رغم الاهتمام اللفظي الذي ظهر في خطاب جورج بوش يوم الاثنين الماضي!

لقد كان واضحًا منذ ما يزيد على ثلاثة أسابيع، أن أبو العلاء هو الذي سيخلف أبو مازن في هذا «المنصب المحرقة» إذا جاز التعبير. وإذا كان من الجائز الآن القول إن «كيس ملاكمة» قد سقط، فإنه من الضروري أن نتذكر أن «كيس ملاكمة» آخر قد حل في محله، مع فارق بسيط، وهو أن الضرب واللكمات باتت أشد وأقسى، مما يستدعي طرح سؤال مبكر جدًا: إلى متى يستطيع أبو العلاء أن يصمد؟

السؤال الأهم، إذا كان تكليف قريع تشكيل الحكومة سينهي التناقض (إذا أنهاه) بين الرئاسة الفلسطينية وبين السلطة التنفيذية، فهل هذا يعني أنه ينهي الانقسام المتزايد عمليًا داخل صفوف السلطة الفلسطينية، وخصوصًا أن لا شيء يوازي الشكوى المتزايدة من هيمنة عرفات المطلقة، إلاّ الاعتراف الصريح بأن أبو مازن ليس مقطوعًا من شجرة ولم يكن صفرًا إلى اليسار!