بعد عامين فقط.. مراجعة لاستراتيجية القطبية الأمريكية الوحيدة

TT

أهم ما تحمله الذكرى الثانية لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) التي تحل اليوم، المراجعة في الموقف الجديد للولايات المتحدة بصفتها القطب الوحيد في العالم. فقبل عام بالضبط من هذا الشهر أعلنت إدارة الرئيس جورج بوش استراتيجيتها للأمن القومي، وأحد محاورها الأساسية الإبقاء على القدرة الأمريكية متفوقة وعدم السماح بنمو مراكز منافسة وبالتالي ممارسة الحق في القيام بضربات استباقية لإجهاض أي خطر، وهو ما وجد تطبيقه في الحرب على العراق خارج الشرعية الدولية وفي رسالة موحية ان واشنطن لا تعبأ بالمنظمة الدولية وما تمثله وأنها على استعداد للذهاب وحدها لتنفيذ سياساتها كما تراها ولدفع الثمن من دم ومال اذا تطلب الأمر.

،يوم الأحد الماضي عاد بوش الى مخاطبة الشعب الأمريكي ومعه العالم، طالبا المزيد من الدعم والمساندة من الألاين: المزيد من الأموال لإنفاقها على الوجود العسكري في العراق وإعادة تعميره والمزيد من الخدمة العسكرية لأفراد الحرس الوطني والاحتياطي الأمريكيين ومن بقية العالم إرسال قوات لمعاونة الجند الأمريكيين هناك.

وفي الحالين لم يعتذر بوش عن سوء التخطيط لمرحلة ما بعد الحرب أو لمنهجه الأحادي، وبالتالي لم يعرض مشاركة سياسية حقيقية للأمم المتحدة في إدارة العراق، الأمر الذي يجعل من عرضه العودة الى المنظومة الدولية أقرب الى تصرف تكتيكي بهدف تأمين معاونة إضافية لإصلاح الوضع أكثر منه تغييرا استراتيجيا في موقف الإدارة من المشاركة الدولية.

وبغض النظر عن صفة العزة بالاثم التي تلحق بهذا الموقف، فان الواقع الذي فرض عملية المراجعة هذه سيبدأ في النخر في قواعد استراتيجيته الأمنية هذه، ومن الاشارات الدالة على هذا التغير تصاعد حملات الانتقاد ضد الوضع الحالي من ناحية وعدم القدرة على تحمل تبعاته بشريا وماديا من الناحية الأخرى.

النائب الديمقراطي ديفيد أوبي من ولاية ويسكونسن ذهب الى مدى أبعد بالطلب من بوش في رسالة من ثلاث صفحات اقالة وزير الدفاع دونالد رومسفيلد ونائبه بول وولفويتز لتوريطهما الولايات المتحدة في المستنقع العراقي. واذا كان يمكن تصنيف هذا التصرف، وهو غير عادي في ظروف مواجهة عسكرية، في إطار المنافسة الحزبية، الا انه ينطلق من قناعة بدأت تسود حول الحاجة الى المراجعة. ونائب جمهوري مثل جون وارنر ومحافظون آخرون أصبحوا يتحدثون علانية عن الحاجة الى مثل هذه المراجعة خاصة في ضوء ما أصبح واضحا انه ليس هناك مخرج واضح للتورط الأمريكي في العراق سواء من ناحية الوقت أو الأموال أو الوجود العسكري.

ووفقا للكثير من التقديرات فأن الوجود العسكري الأمريكي الحالي حيث يوجد ستة جنود أمريكان من أصل كل سبعة، لا يبدو مرشحا لتغيير كبير في تركيبته، ولا يتوقع الكثير من المحللين جمع أكثر من 30 ألفا من القوات الدولية، وذلك بسبب حالة الانتشار والضعف العددي للقوات التي تعاني منها الكثير من الدول التي تشارك في مثل هذه المهام، حيث تتوزع قواتها بين كوسوفو، والبوسنة، وأفغانستان، والكونغو وليبريا وغيرها. ثم انه حتى القوات العراقية المنتظر تأهيلها وتدريبها لتتولى مهام الأمن في بلدها، تحتاج الى فترة 18 شهرا على الأقل حتى يمكنها لعب دور حيوي، وهو ما يعني إبقاء القوات الأمريكية فترة أطول، الأمر الذي استهدفه صدور قرار يوم الجمعة الماضي بتمديد فترة عمل قوات الحرس الوطني والاحتياطي شهورا أضافية.

أما من الناحية المالية، فان مبلغ 87 مليار دولار التي طلبها بوش من الكونجرس ليبدأ الإنفاق منها مع الموازنة الجديدة الشهر المقبل، سيرفع حجم الانفاق الكلي على العمليات واعادة الإعمار في العراق الى 150 مليار دولار، بزيادة 50 في المائة عما كان عليه الوضع قبل بضعة أشهر. على ان الأخطر من هذا انها سترفع العجز في الميزانية من 475 مليارا، وهو رقم قياسي، الى 562 مليارا. والخطورة في الرقم الأخير انه يقترب من الحاجز الذي وضعه البيت الأبيض لنفسه وهو الا يتجاوز حجم العجز في الميزانية 5 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، أي أن يكون في حدود 600 مليار دولار.

يوم الثلاثاء خرجت صحيفة «نيويورك تايمز» بأقسى انتقاد لها لبوش وسياسته في افتتاحيتها لذلك اليوم التي تقارب في روحها وبعض فقراتها الانتقادات في كتاب مايكل مور الشهير «رجال بيض أغبياء»، اذ تتهمه الافتتاحية انه ليس على استعداد للتضحية بشعبيته ومستقبله السياسي بنفس الطريقة التي يضحي بها بمصداقية واقتصاد بلده. مختتمة بالقول ان مسيرة بوش السياسية تشير الى انه ظل شخصا محظوظا مستفيدا من صلات عائلته القوية، لكن في الوضع الحالي لا توجد حلول سهلة. وفي مثل هذه الأوقات التي تحتاج الى بروز قيادة فاعلة يبدو بوش غير قادر على دفع الناس الى طريق الخيارات الصعبة، الأمر الذي يجعلهم يدفعون الثمن.

أهمية مثل هذا الحديث وتناميه أنه يوسع من هامش الانتقاد، وذلك في تضاد مباشر للخط الذي كان سائدا منذ الهجمات على نيويورك وواشنطن، انه أي نقد للخط الرسمي في مواجهة الأرهاب يعتبر خيانة وطنية. كتاب مور مثلا تعرض الى حظر توزيعه في البداية لهذا السبب. وعندما يضاف الى ذلك الكلفة الاقتصادية المرتفعة، فان عملية التآكل في الاستراتيجية الأمنية الجديدة بدأت تتضح معالمها. والاستنزاف المعنوي عبر اضمحلال الارضية المعنوية التي تقف عليها القوة العظمى الى جانب الاستنزاف الاقتصادي وارتفاع كلفة الحفاظ على مرتبة الدولة العظمى هما العاملان الأساسيان في تدهور هذه القوى، اذ يتيحان الفرصة للقوى المنافسة أن تبرز.

ومع انه من المبكر الحكم ان عهد القطبية الواحدة على شفا الانهيار، الا انه من المثير أن يبدأ الحديث عن عوامل التحلل والتآكل بعد عقد واحد من تسيدها على المسرح العالمي، اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، ولو انها أمضت بضع سنوات لاحقة لضمان ألا ينجم ذلك الانهيار عن انتشار للأسلحة النووية وترتيب شيء من الانتقال الهادئ من الشمولية الى التعددية، وهو ما استغرق معظم سنوات العقد الماضي، وجاء عهد بوش لتضمحل تلك المخاوف وليستقر الوضع في روسيا، وهو ما فتح الطريق أمام القرن الأمريكي في الألفية الجديدة الذي تعبر عنه استراتيجية الأمن القومي المشار اليها. لكن ها هو الواقع يفرض عليها مراجعات ومتغيرات. وتظل المقولة اللينينية صحيحة «ان النظرية رمادية والواقع أخضر».