مالم يحققه محمود عباس.. لن يحققه أحمد قريع!

TT

إساءة الاميركيين الى رئيس الوزراء الفلسطيني (المستقيل) محمود عباس (أبو مازن) كانت اكثر وأسوأ من إساءة «رفاقه» وإخوته الذين لم يقدروا تاريخه النضالي الطويل وعطاءاته غير المحدودة فطعنوه في الخصر والصدر ولم يتورعوا، لمآرب شخصية ومماحكات فردية، عن اتهامه بوطنيته وصدق انتمائه.

لقد دفع الأميركيون محمود عباس (أبو مازن) دفعاً للقبول بمهمة، كان يعرف سلفاً ان القبول بها سيكون مجازفة كبيرة، ولم يقدموا له ما يعينه على إنجاز هذه المهمة، التي لم يقبل بها طمعاً في المنصب، ولكن سعياً لانقاذ ما يمكن إنقاذه، وتركوه وحده يقاتل على جبهات متعددة اصعبها وأشدها قسوة جبهة الوضع الفلسطيني الداخلي.

كان على الاميركيين ألا يلقوا بهذا الرجل مكتوفاً الى اليمّ ويقولوا له: «إياك.. إياك ان تخشى من الغرقِ»، ولو ان الادارة الاميركية كانت عازمة فعلاً ومخلصة فعلاً وصادقة فعلاً لمساعدة هذا الرجل وتوفير كل مستلزمات النجاح له لكانت بدأت بالثور الاسرائيلي الهائج وقامت بترويضه وألزمته بالانصياع لمتطلبات السلام الذي تتحدث عنه وتعد الشرق الاوسط بتحقيقه.

لم يفعل الاميركيون شيئاً غير التصريحات المتلاحقة «الداعمة»، بالاقوال وليس بالافعال، والتي اساءت لرئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل او المـُقال، لا فرق، ووضعته في وجه ياسر عرفات بل في وجه الشعب الفلسطيني الذي كان ينتظر ان يتوقف مسلسل العنف الدموي الاسرائيلي ليلتقط انفاسه ويثق بـ«خارطة الطريق» وبالسلام الذي تعرضه الادارة الاميركية.

بدأ محمود عباس تنفيذ «خارطة الطريق» بالسير على الطريق الصحيح فقد اتفق مع حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي» على هدنة تمتنع خلالها الفصائل الفلسطينية المعارضة عن القيام بأي عمليات عسكرية والهدف كان احراج الاسرائيليين وإلزام إرييل شارون وجنرالاته وحلفه المتطرف بهدنة مماثلة ليصبح بالإمكان الحديث عن العودة الى عملية السلام ولو من نقطة الصفر ومن المربع الاول.

ولعل ما يؤكد مدى ثقة هذه الفصائل المعارضة بـ«أبو مازن» ان الاستجابة كانت مشجعة وان الالتزام بقي شاملاً، اللهم باستثناء ما كان يقوم به التنظيم الوهمي الذي يطلق على نفسه اسم «كتائب الاقصى» والذي، كما تقول المعلومات، يتم تمويله من جهات خارج الساحة الفلسطينية وعبر بعض بقايا ما يعتبرون انفسهم رموز «فتح» في بعض المخيمات الفلسطينية اللبنانية.

لقد نجح ابو مازن على جبهة حركتي «حماس» والجهاد الاسلامي، ولكنه ذاق الأمرين، على مدى نحو اربعة أشهر، على جبهتي اسرائيل والوضع الداخلي الفلسطيني، فالاسرائيليون الذين لا يريدون السلام والذين يتهربون من استحقاق الدولة الفلسطينية في عام 2005، كما يؤكد الاميركيون ويواصلون التأكيد، واصلوا استفزاز حركة «حماس» وبطريقة منهجية الى ان استجابت لهذه الاستفزازات وقامت بعملية القدس المشؤومة التي وضعت ابو مازن والسلطة الفلسطينية والوضع الفلسطيني كله على الرصيف الذي كان يريده شارون ويسعى لوضع الفلسطينيين عليه.

وبالتوازي مع هذا، وهذه هي «الطامة الكبرى»، فإن انتفاضة الوضع الداخلي الفلسطيني ضد ابو مازن كانت أقسى من انتفاضته على اسرائيل وشارون، إذْ اختلط الحابل بالنابل، وإذْ تكاتف المخلصون والصادقون والانتهازيون واصحاب الاجندات الخاصة والحسابات الشخصية فسدوا كل الطرق في وجه هذا الرجل الذي لا يستحق كل هذه الاساءات ودفعوه دفعاً الى الاستقالة التي غدت خياره الوحيد، والذي قد يودع نضاله الطويل ويتخلى عن كل احلامه وتطلعاته الوطنية ويبدأ رحلة منافٍ جديدة تقوده لقضاء باقي ما تبقى من عمره بعيداً عن فلسطين.

لم يرحم قادة «فتح» وأولهم أعضاء مركزية «فتح» زميلهم ورفيق دربهم الطويل فشكلوا الفك الآخر من الكماشة لمضاعفة الضغط عليه ولإكمال مهمة شارون تجاهه، وإن عن غير قصد وبلا تنسيق، لاسقاطه والاساءة الى تاريخه النضالي الطويل، والمسؤولية هنا يتحملها الاميركيون الذين بقوا يراقبون المشهد عن بعد ولم يقدموا سوى التصريحات التي اساءت الى هذا الرجل أكثر مما ساعدته وأسعفته لحسم الأمور لمصلحة «خارطة الطريق» وعملية السلام.

إما ان الاميركيين غير صادقين بالحديث عن السلام وبالوعود التي قطعوها على أنفسهم لانهاء ازمة الشرق الاوسط وإقامة الدولة الفلسطينية في عام 2005، وإما أنهم جهلة لا يستحقون ان يكونوا القطب الاوحد في العالم، ولعل جهلهم على هذا الصعيد يعززه جهلهم المزري في العراق والذي أوصل الأمور الى ما وصلت اليه.

لو بادر الاميركيون الى ممارسة ضغط حقيقي على الاسرائيليين وألزموهم بكل متطلبات الهدنة التي أبرمها ابو مازن مع حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي» فإن المؤكد ان رئيس الوزراء الفلسطيني المستقيل أو «المقال» كان سيكسب الجولة بالنسبة للوضع الفلسطيني الداخلي ولكانت «خارطة الطريق» التي يتغنى بها جورج دبليو بوش وباول ومعهما كوندوليزا رايس قد قطعت خطوات فعلية على بداية الطريق.

هناك رفض فلسطيني داخلي لهذا الرجل لأسباب كثيرة، نرجو ألا يكون أحدها انه ليس لا من الضفة ولا من غزة وأنه بالاساس لاجئ من صفد، ولقد التقى هذا الرفض مع مخاوف ابو عمار وتخوفاته من ان تشطبه وتشطب تاريخه ونضاله المعادلة الجديدة فأصبح ابو مازن في نقطة تلاقي السهام وكانت النتيجة الحتمية المتوقعة ان أُجبر على تقديم استقالته وهي استقالة سبقتها في الحقيقة إقالة كانت تبنتها اللجنة المركزية لحركة «فتح».

وهنا وإذا كانت استقالة ابو مازن او إقالته جاءت بمثابة قتل عن سابق إصرار وتصميم لهذا الرجل فإن الذين نحروه في الحقيقة هم الاميركيون فهم أشبعوه غزلاً وتصريحات جميلة بعد ان دفعوه الى هذا الموقع، الذي قبل به لانقاذ ما يمكن انقاذه، دفعاً وتركوه يقاتل على كل هذه الجبهات القاسية وحده ولم يسعفوه ولو بالحدود الدنيا من الضغط على شارون والزامه بالاستــجابة لمتـطلبات الهدنة التي كان قد ابرمـها مع حركتي «حماس» و«الجهاد الاسلامي».

لقد استقال أبو مازن او أقيل، ولقد وقع الاختيار على رئيس وزراء فلسطيني جديد، ولكن الواضح ان الاوضاع المعقدة ستزداد تعقيداً وأن ما أخفق هذا الرجل في اجتراحه لن يجترحه احمد قريع (ابوعلاء) صديق ورفيق رئيس الوزراء المستقيل وشريكه في مفاوضات اوسلو وفي كل مفاوضات الاعوام اللاحقة.

فهل سينجح ابوعلاء حيث فشل محمود عباس أو أُفشل..؟!

إن عوامل النجاح بالنسبة لـ«خارطة الطريق» وهذا الوضع برمته تكمن في ان يتخلى الأميركيون عن هذه السياسة البلهاء وان يحزموا امورهم، إذا كانوا صادقين فعلاً في توجهاتهم لوضع حد للصراع في هذه المنطقة، ويمارسوا ضغطاً جدياً على اسرائيل سواء في عهد هذه الحكومة التي يرأسها شارون او أي حكومة بديلة مقبلة.

إذا لم يحسم الاميركيون امورهم، وإذا لم يتعاملوا مع رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد بغير الطريقة التي تعاملوا بها مع «ابو مازن»، فإن المؤكد ان الأمور ستتطور من سيئ الى أسوأ، وإن المؤكد ان كل شيء سينهار وبخاصة إذا اقدم شارون على ارتكاب حماقة قاتلة كأن يستغل الظروف بعد اي عملية انتحارية قد تقع ويبادر الى اغتيال الرئيس الفلسطيني بطريقة من الطرق او ترحيله الى خارج فلسطين.

لا يبدو ان التطورات المقبلة ستكون افضل مما كان عليه الوضع سابقا،ً والمؤكد ان مصير مهمة رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد ستكون اصعب من مهمة رئيس الوزراء الذي سبقه، فالمطلوب أميركياً واسرائيلياً وفلسطينياً الذي لم يستطع إنجازه ولا تحقيقه أبو مازن لن يستطيع إنجازه وتحقيقه لا «أبو علاء» ولا غيره وتفكيك تنظيم حركة «حماس» و«الجهاد الاسلامي»، يبدو في هذه المرة أكثر صعوبة من المرات السابقة.