حرب أهلية بين الأفكار

TT

حينما يرى هذا المقال الضوء يكون العالم قد تسلم رسالة فيديو جديدة لأسامة بن لادن عبر محطته الفضائية المفضلة الموجودة في قطر.

لكنني أخمن أنه لن تكون هناك أي أفلام فيديو حتى لو كانت مزيفة. فأفضل المعلومات تقول إن أسامة بن لادن قد مات يوم الخامس من ديسمبر 2001 في أفغانستان وتم دفنه في نفس اليوم داخل قبر بلا علامة.

في السنة الماضية قام بعض المتعاطفين مع «القاعدة» بالاجتماع في قاعة مستأجرة بوسط لندن للاستماع إلى تسجيلات قديمة لأسامة بن لادن لإجراء مقارنة بين الملاحظات التي ذكرها حول حركتهم البائسة. لكن في هذه السنة لن يكون هناك أي اجتماع من هذا النوع فبعض القادة الهاربين من «القاعدة» قد يكونون إما رهن الاعتقال أو أنهم هربوا من بريطانيا.

وعانى الإرهابيون أيضا من نفس الاحباطات في البلدان الغربية الأخرى. إذ ذهبت تلك الأيام التي كان الإرهاب الأصولي المتطرف قادرا فيه على عقد اجتماع بتكساس، في ولاية دالاس. ومجموعة الدكاكين التي كانت تستخدم كملاذات للجماعات الإرهابية قد تم كبسها وأصحبت الآن فارغة. وفي هامبورغ بألمانيا حيث لعب عدد من الناشطين المتطرفين كموظفين للتجنيد قد اختفوا.

ضمن الصياغات العسكرية والأمنية فإن الحرب على الإرهاب قد سارت بشكل أفضل مما كان متوقعا. فمن عشرات القواعد الإرهابية المنتشرة في أفغانستان وباكستان قد تكون هناك اثنتان أو ثلاث ما زالت على قيد الحياة في منطقة موهاند التي تعد واحدة من أكثر المناطق الجبلية وعورة في باكستان.وآخر مكان كان بإمكان الإرهابيين أن يجتمعوا فيه في العالم المسلم هو الرباط في نهاية ديسمبر 2002، وهي سوق مشهورة للصوص تقع فيما يسمى بـ«مثلث الشيطان» حيث تلتقي حدود إيران وأفغانستان وباكستان. وكان تحرير العراق قد دمر تركيب ما يقرب من عشرين تنظيما إرهابيا والتي يوجد من بينها على الأقل واحد له ارتباط بـ«القاعدة».

بعض الأموال ما زالت تصل إلى خزائن التنظيمات المتطرفة وهذه تقوم بدورها بتمويل نصف دزينة من المنظمات الإرهابية التي ما زالت قادرة على القيام بهجمات متقطعة لكن حتى الأموال أصبحت ضئيلة قياسا بما كان متوفرا لها قبل هجمات 11 سبتمبر 2001.

في الوقت نفسه أثبتت التوقعات التي تقول إن عدة بلدان مسلمة ستقع بين أيادي الإرهابيين أنها خاطئة. فباكستان التي أعتبرت «جاهزة لهذا السقوط» برزت بعد عقدين من عدم الاستقرار لتكسب ثقة قوية بنفسها. والجزائر هي مرشح آخر للسقوط لكنها الآن بدون شك أكثر استقراراً مما كانت عليه قبل عامين. أما اندونيسيا التي قُدِّمت على أنها الهدف اللاحق للإرهابيين راحت تصلِّب من ديمقراطيتها الجديدة التي فازت بها أخيرا.

وأخيرا وليس آخرا هناك العراق الذي كان فيه واحد من أكثر الأنظمة بشاعة وقسوة والذي لم تر البلدان المسلمة شبيها له خلال أكثر من قرن واحد قد انهار أخيرا مثل قبضة من أوراق اللعب وهذا يعود بالدرجة الأساسية لأن الشعب العراقي رحب بتحريره. والأكثر أهمية هو أنه خلال السنتين الأخيرتين بدأ يظهر نقاش في العالم الإسلامي لم يشهد مثيلا له من قبل.

ولاول مرة، تسمح وسائل الاعلام الاساسية في العالم الاسلامي بطرح اسئلة صعبة، بما في ذلك ما اذا كان يجب ان يبقى الاسلام على هامش العالم الحديث ويقطب جبينه، ويلقي قنابل عليه، او المشاركة في تطويره وتحديثه.

وفي كل بلد اسلامي تقريبا يجري ما يمكن وصفه بحرب اهلية فكرية. فقد تبين للحداثيين انه لا يمكنهم رفض الاسلام على اساس انه «بقايا اقطاعية» ولكن يجب السعي الى فهمه من منطلقات حداثية واعادة تحديد بعض من ممارساته لكي تعكس الحقائق الوجودية لمجتمعاتهم. لقد خلق تباعد النخبة الحداثية عن «القاعدة» الامية بصفة عامة والفقيرة في معظم المجتمعات الاسلامية، الى خلق فراغ تمكنت فيه طبقة صغيرة من المتعصبين من تعبئتها برسالة الكراهية، والعنف والارهاب. وفي الوقت ذاته استغلت العديد من النظم الاسلامية الاسلام كوسيلة لعزل واسكات النقاد الاصلاحيين. وهذه النظم بدأت في معرفة ان الوحش الذي دربوه على التهام الاعداء يمكن ان يلتهمهم هم.

وحرب الافكار الاهلية هذه تمثل اصعب وفي النهاية المرحلة الحاسمة في الحرب ضد الارهاب. واذا لم يمكن تحقيق الانتصار من قبل اناس يرغبون في اخراج الاسلام من النفق الضيق الى الحياة الانسانية المعاصرة، فلن يؤدي اي عدد من الانتصارات العسكرية او لاجهزة الامن او الانتصارات الدعائية ضد الارهاب، الى ظهور العالم الاكثر امنا الذي نريده جميعا.

ولكن مثل هذه الحرب الاهلية متأججة في الغرب.

فمن ناحية هناك الحركة الاستعمارية الجديدة التي تحث الديموقراطيات الغربية على ترك العالم الاسلامي وحده لكي يغلي في مزيج من الفقر والعنف والقمع. والفكرة هي ان المسلمين لن يقبلوا ابدا الديموقراطية وحكم القانون وان افضل ما يمكن ان يفعله الغرب هو تجاهلهم باسم «الثقافي الاخ» والفكر السياسي الصحيح. وفي الناحية الاخرى توجد حركة الواقعية الجديدة التي تعتقد ان الطريقة الوحيدة لمواجهة الارهاب هو تعليم المسلمين درسا لا يمكن ان ينسوه. والحركة القومية الجديدة تتجاهل الحاجة الى تحالف واسع النطاق مع الاصلاحيين الاسلاميين والديموقراطيين في جهد مشترك لوقف الارهاب وهزيمته في النهاية. وهي تنسى ان الضحية الاساسية للارهاب هم المسلمون انفسهم (لقد تسبب صدام في وفاة اكثر من مليون عراقي وايراني وكويتي وغيرهم من المسلمين). كما ذبحت جماعة طالبان عشرات الالوف من الافغان.

وبعد مرور عامين على هجمات 11 سبتمبر يتضح ان العالم الاسلامي قد رفض رسالة الموت المرتبطة الان باسم اسامة بن لادن، بالرغم من كونه مجرد جزء صغير في آلة شيطانية جرى تشييدها خلال قرن. وبدل فهم هذه الحقيقة الحيوية ومد العلاقات بين الناس مع بعضها البعض، فإن بعض الديموقراطيات الغربية قد اقامت حواجز جديدة لحجز «حشود المسلمين».

وفي الوقت ذاته فإن بعض الحكومات المسلمة في محاولتها للحفاظ على سيطرتها القمعية على السلطة، قد انتهزت الفرص بإبعاد مجتمعاتها عن الغرب ومنع بعض الافكار الخطرة مثل الديموقراطية وحقوق الانسان.

وحتى اذا ظهر اسامة بن لادن في شريط فيديو جديد، فليس لديه من قول جديد او مهم. ان البن لادنية ليس لها مستقبل في العالم الاسلامي. ولكن هذا لا يعني ان العالم الاسلامي على استعداد للخروج من قرنين من الفوضى والازمات التي ادت ببعض مجتمعاته الى المأزق التاريخي للارهاب.