السلاح المضاد

TT

تمتلك الولايات المتحدة أكبر وأهم آلة إعلامية في العالم، وبالتالي في التاريخ، ومنذ الحرب العالمية الثانية كانت هذه الآلة سلاحها الموازي للسلاح العسكري الفعلي: الصحافة، الإذاعة، السينما ومن ثم التلفزيون. ولكن هذه الأدوات الإعلامية الطاغية، التي حولت العالم إلى قرية، وجعلت الملايين يسمعون «صوت أميركا» والمليارات يشاهدون السي. إن. إن وأمم الأرض تحضر فيلم «ذهب مع الريح» أو تضحك لحلقات «كوسبي» ـ هذه الأدوات تحولت في النهاية إلى سيف ذي حدين. إذ خلال مرحلة حكم صدام حسين حدثت ألوف الجرائم كما قيل، لكن لم يصور منها سوى بعض اللقطات السرية في حلبجة. لقد منع النظام العراقي المراسلين من تصوير أي شيء إلا ما يريد، ومنع دخول الصحف، ومنع الصحون التلفزيونية اللاقطة واستخدم سلاح القيود الإعلامية بدل الحرية الاعلامية. وفي كوريا الشمالية لا يسمع السكان سوى خبر واحد، وهو أن المطر كان منحبسا في الاتحاد السوفياتي وظل كذلك إلى حين وصل قطار الزعيم المحبوب كيم جونغ ايل فعندها «حدثت الأعجوبة»، وهطل، وظل يهطل.

بين العتم الإعلامي الذي كان سائداً أيام صدام حسين وبين الانكشاف الحالي، يكمن سر الخسارة والربح، كل شيء الآن يحدث أمام الأضواء. أي تظاهرة تجري أمام الأضواء. وأي مقتلة تلتقطها العدسات في العالم. وبغداد التي لم تكن تصدر فيها سوى «صحف الاستاذ عدي» على مدى سنوات طويلة، تصدر فيها الآن مائة مطبوعة وتباع فيها كل المجلات والصحف العربية والأجنبية.

وفي هذه الدائرة من الحرية التي لم يعرفها العراق حتى أيام النظام الملكي، تحرض الصحف ضد الاحتلال وتنقل الفضائيات العربية بيانات صدام حسين وتعقد الندوات والمقابلات من قلب العاصمة العراقية التي كانت إلى ستة أشهر خلت مثل تيرانا أيام أنور خوجة، والوسائل الإعلامية الأميركية التي نقلت إلى الأميركيين صور سقوط بغداد وهزيمة صدام حسين، تنقل إليهم الآن كل يوم صور الفرق الأميركية في الوحول وطبيعة الحياة في حرارة تبلغ 57 درجة مئوية بالنسبة إلى رجال يرتدون طنا من الملابس.

الإعلام الذي كان سلاح أميركا أول الحرب هو السلاح الأول ضدها الآن. ولولا كانت الصحافة لا تزال تحت إشراف الأستاذ عدي، لما كان يحدث شيء في العراق الآن سوى أم المعارك ونقل اللواء الرشيد من وزارة النفط لأنه يرفض التوقيع على عقد ما، كل شيء آخر ليس حدثا. وإذا تأملنا قليلا في مجريات الأمور الآن، نجد أن الجبهة الإعلامية أوسع بكثير مما كانت خلال الحرب الفعلية. ويتخذ مقتل جندي أميركي الآن من الصدى والمضاعفات والتداعيات والتأثيرات أحجاما أكثر مما كانت تتخذه الجبهة كلها. والدرس الإعلامي هو هذا ولا سواه، فالإعلام إما أن توجهه كما فعل الاتحاد السوفياتي، بحيث لا يعود هناك حادث سيارة في بلد من 255 مليونا، أو أن تترك له حريته النسبية، فيصبح هو السلاح الأقوى والأمضى والأكثر تأثيرا. وفي الحقيقة تهرب أميركا الآن إلى الأمم المتحدة، ليس خوفا من السلاح العسكري الذي ينصب كمينا هنا أو هناك، بل من السلاح الإعلامي الذي يدمر معركة جورج بوش في واشنطن وهيبة أميركا في العالم، ويعرض على الأميركيين في منازلهم صورة يومية بالألوان عن مآل الديمقراطية ومدى تقدمها.