هل عروبة العراق في خطر؟

TT

اذا جاز لي ان استعير من الراحل جمال حمدان مبدأ «عبقرية المكان والزمان»، لقلت ان العراق يتمتع بـ«عبقرية التاريخ». ففي حضن النهرين العبقريين (دجلة والفرات) نشأت حضارات الطين الانسانية الاولى منذ سبعة آلاف سنة.

وفي كنف النهرين، ازدهرت «عبقرية» الدولة السامية سواء كانت سومرية او بابلية او آشورية. وكانت هذه الدول مع الدولة المصرية القديمة اول «مجتمع مدني» له نظامه السياسي وقوانينه المدنية وثقافته الدينية والفنية.

كانت الدولة العراقية آنذاك، على شدة بأسها وتماسكها، مغزَّوة اكثر منها غازية. كانت عرضة دائما لـ«عبقرية الخطر» الآتية من الشرق «الآري» سواء كانت فارسية او غير فارسية. وكان عذر الدولة العراقية في غزوها الخارجي النادر وسبيها لليهود كونهم مصدر شقاق مهدد لسلام المنطقة.

سامية العراق القديم مهدت لولادة عروبة العراق السامية ايضا، تماما كما اكد التدمريون والانباط والغساسنة سامية الشام. وكان المناذرة في العراق والغساسنة في الشام بشيرا مبكرا بالاندفاع السامي الاكبر الممثل بهجرة عرب الجزيرة تحت راية الاسلام لاستكمال «عبقرية التعريب» للشام والعراق في رعاية الدولتين الاموية والعباسية.

كان تعريب الشام وأسلمتها عملية سهلة، بحكم عبقرية «التواصل السامي». لكن هذه العبقرية اصطدمت في اطراف العراق الشرقية والشمالية بالجدار الآري. كان الفرس والاكراد حائرين في قبول التعريب. فقد تقبلوا «عبقرية الاسلام» كرسالة مساواة بينهم وبين العرب، وترددوا في قبول اللغة والثقافة.

عبر الرفض الفارسي للعرب عن نفسه بالانشقاق الديني من خلال تبينه المذهب الشيعي الذي ما لبث ان اصبح الدين الرسمي للدولة الفارسية في العهد الصفوي في القرن الخامس عشر. اما الاكراد فقد كانوا اكثر قبولا للتعريب من الفرس من خلال اعتناقهم المذهب السني، وقيام الدولة الايوبية في حضن العروبة ووطنها في الشام ومصر. وتعربت اجيال من الاسر الكردية في المجتمع العربي المدني، وشاركت في النهضة العربية الحديثة بالعمل السياسي العربي، وفي اثراء الثقافة العربية.

العراق، اذن، ليس كيانا مصطنعا، كما يظن بعض العرب الموهومين بالزعم بان العراق الحديث رسمته الريشة الاستعمارية الاوروبية. انه كيان تاريخي عريق منحته العروبة اكثر من 1400 سنة عبقرية الاصالة والمكانة والدور.

وكما كانت الدولة العربية الاولى (الاموية والعباسية) سنّية المذهب، فقد كانت الدولة العراقية الحديثة بعد انحسار المد التركي والفارسي من صنع سنة العراق. اذا لم تساهم الشيعة في اقامتها، فقد شاركت مشاركة عريقة في بنائها واثراء ثقافتها، ورفد احزابها بأجيال من شبابها، وتغذية ادارتها وحكومتها بنخب مستمرة من ساستها ورجال البيروقراط والتكنوقراط.

ظلت الشيعة العراقية عربية الهوية، فيما بقي الفكر الشيعي الديني وثيق الصلة بالفكر الشيعي الفارسي، ولم يكن بامكانه الامتداد خارج بيئته المحلية ليلف العراق او الشام (باستثناء البيئة الشيعية في لبنان).

في المصارحة مع الذات والامانة مع التاريخ، يمكن القول ان سنة العراق اساءت لعروبة الدولة العراقية الحديثة بأكثر مما اساء اليها تردد الشيعة الدينية في قبولها، او رفض الاكراد لها.

فقد ابتذل العراق الملكي الديمقراطية، ثم غيَّبها تماما الانقلاب العسكري السني. وجاءت ضحالة ثقافة صدام العشيرية لتلغي الحزب «القومي»، ولتضع عروبة العراق ووحدته الترابية والاجتماعية في خطر الحاضر والمستقبل. كانت ممارسة صدام لـ«العروبة الاستئصالية»، باستخدام العشيرة السنية لقمع الاكراد والشيعة، مخجلا ومعذبا لكل نفس عربية واعية.

كي لا اغرق في متاهة التعميم الجأ الى تحديد عدة اشكاليات عربية وعراقية هي بمثابة محك واختبار لعروبة العراق الجديد.

الاشكالية الاولى هي مجلس الحكم العراقي. يجب ان يكون واضحا للعرب ان التركيب الطائفي للمجلس لم يفرضه الاحتلال الاميركي، بقدر ما فرضته رغبة طوائف العراق واعراقه في ان يكون لها دور وصوت في حكم العراق، وفي تجنب تكرار استخدام العشيرة السنية او غيرها في المستقبل كأداة قمع جماعي. لقد اكد مجلس الحكم عروبته من خلال النداءات العاطفية التي وجهها للعرب جميعا للاعتراف بعروبته، وبدور عراقي فاعل، دور بلا عقد التهديد والاستفزاز والعدوان.

في معالجة الاشكالية الكردية، لا بد من التنويه بالموقف الكردي الجديد. كان وزير الخارجية الكردي هوشيار زيباري موفقا ورائعا في مخاطبة جامعة العرب «اللامبالية» بلسان وصوت العراق العربي. فعل هوشيار ذلك بتوجيه من مجلس الحكم. لكنه ايضا كان يعبر عن واقعية زعيمه مسعود البرزاني ونده المنافس جلال الطالباني. وكلاهما يتكلم بأفصح من «أعاجم» الاذاعات والتلفزيونات العربية.

برزاني وطالباني يبرهنان على استعداد كردي للتعايش مع عراق ذي غالبية عربية سنية وشيعية. وهما مندمجان بحرارة في اللعبة السياسية السلمية، من خلال عضويتهما في مجلس الحكم. واعتراف الاكراد بعروبة العراق لن يلغي الهوية والثقافة الكردية. ولا شك ان الدستور العراقي المنشود سينص صراحة على الحقوق الكردية.

ولعل اعتماد الديمقراطية اللامركزية هو الضامن لوحدة العراق الترابية اكثر من «فيدرالية الحكم الذاتي» التي يصر الاكراد عليها ويخشى العرب من ان تكون تمهيدا مرحليا لتقسيم العراق. لا بد لبرزاني وطالباني من اتخاذ قرار حاسم في ان يكون الانتماء الكردي لعراق موحد هو خيارا نهائيا وليس مؤقتا بانتظار الفرصة الاقليمية والدولية المؤاتية لاعلان الاستقلال. مع ذلك، فحكمة السنة والشيعة في الحرص على التعايش والوحدة الوطنية داخل مجلس الحكم وخارجه، سوف تقنع بامكانية بقاء العراق دولة موحدة لعربه واكراده.

الاشكالية الثالثة هي ضعف ثقافة الحرية في العالم العربي. ينعكس ذلك في غوغائية الاعلام التلفزيوني في «تجهيل» العرب بالحرية السياسية والاعلامية الجديدة في العراق، وفي الاصرار على تصوير ارهاب فلول صدام وتخريبها لشبكات المياه والكهرباء والنفط وكأنهما «مقاومة وطنية» للاحتلال! حرية الصحافة الحزبية المصرية والاردنية في قلب الحقائق العراقية والتهجم على مجلس الحكم وتصوير اعضائه كعملاء اميركيين، هذه الحرية اللامسؤولة واللاواعية قوميا تندرج ايضا في ثقافة العداء للحرية.

الاشكالية الرابعة هي رديف لاشكالية ضعف ثقافة الحرية. انها اشكالية رفض العقل العربي للتفاصيل. ما زالت النخب المثقفة غير مستعدة للتعرف على دقائق المواقف الدولية والاميركية تجاه العراق. وهي ما زالت في تنظيرها الصحافي والتلفزيوني مصرة على «سرقة» الاحتلال الاميركي للعراق، ونهب موارده النفطية. ليس دفاعا عن الاحتلال وعن اميركا القول ان دافع الضرائب الاميركي سيمول ميزانية الاعمال العراقية بعشرين مليار دولار في العام المقبل، وهي تعادل خمسة امثال الدعم المالي الذي تحصل عليه اسرائيل سنويا من اميركا.

لن يكون هناك تخصيص لنفط العراق وبيعه لشركات النفط الاميركية. لن يخرج العراق الجديد من الاوبك. لن يكون هناك اعتراف عراقي باسرائيل قبل السلام مع الفلسطينيين. الشركات الوطنية العراقية حصلت على 41 مشروعا من اصل 75 مشروعا تتولى شركة باكتل الاميركية تنفيذها في العراق. هناك مؤتمر في اكتوبر المقبل للدول المانحة التي ستساهم مع اميركا في تمويل اعمار العراق. هناك شركة اميركية تتولى اصلاح انابيب النفط التي تخربها «المقاومة الوطنية» حارمة «العراق من عشرين مليار دولار يحتاج الىها في السنة المقبلة من موارده الذاتية لتمويل اعماره».

اخيرا، هناك اشكالية الموقف العربي الرسمي. ففي تردده في الاعتراف بمجلس الحكم يساهم بلا وعي في تغريب العراق عن عروبته، وفي تجاهل عواطف العراقيين الرافضة لنظام صدام، لقد قبل العراقيون الاحتلال الاجنبي كسبيل كان الوحيد للتخلص من نظام لا اخلاقي ولا انساني في احكام الحفاظ على امنه، ورفضه المطلق لأي حوار سلمي مع شعبه كأساس للتطوير والتغيير.