انتحاريون بلا حدود

TT

قد يكون الموت أفضل من هكذا حياة...

أو ان المزارع الكوري الجنوبي الشهم ليي كينج هاي أيقن بأن الإهانة التي يسددها، له ولرفاقه، أثرياء منظمة التجارة العالمية هي من القسوة بحيث تستحق الرد عليها بلغة احتجاجية طالعة من صلب أرضه التي كانت تثمر ذهباً وصارت بسببهم لا تسد رمقا، فقرر ان يطعن صدره بسكين حادة ويقضي، وسط الجموع المتظاهرة، على ذاك الجدار الفاصل بين الفلاحين المقهورين والمدللين من أصحاب الياقات البيض، المجتمعين في صالات مرفهة. فعلى الطريقة الهيراكيرية، ذات الخصوصية الشرق آسيوية، أحب هذا النقابي المخلص إيصال رسالة ملايين الكوريين المهددين بالجوع إلى طواويس العولمة، في كانكون بالمكسيك، حين لم يعد الكلام يجدي نفعا، وبلغ عدد رجال الأمن أربع مرات تعداد المطالبين بإسماع صوتهم. ولكن هل بلغت شهقة ليي كينج هاي الأخيرة مسامع سدّتها أكداس الدولارات وشهوة البذخ الأناني البشع؟ وهل ان الرجل هو محض حالة فولكلورية شاذة يصح تجاوزها؟ الأخبار الآتية من جنوب الهند تنبئنا بانتحار ما يقارب تسعين مزارعاً، بؤساً وعوزاً، بعد ان أصبحت الاتفاقات الدولية تغرق مواطنيهم بمنتوجات غيرهم. والكلام على فقراء العولمة المتنامين بغزارة تجود به منظمة اليونسكو بتقاريرها، وإن كانت تعجز، فعلياً، عن إحصاء الملايين المنسيين، المحسوبين على الأغنياء لا لشيء إلا لأنهم يقيمون جغرافياً في كنفهم. ويقول تقرير جديد أعذّ عن الانتحار وشمل عدداً من الدول الأوروبية، ان فئة جديدة أضيفت مؤخراً إلى فئتي الشباب والشيوخ التي طالما اعتبرت الأكثر ميلاً إلى الانتحار، وتضم في غالبيتها رجالاً ونساء تتراوح اعمارهم بين 35 و44 سنة، وهذه الفئة العمرية التي كانت تعتبر الأبعد عن هواجس قتل النفس، ترتع في كوابيس اشتهاء الموت بنسب فاقت كل التوقعات، والمنتحرون بينهم هم في غالبيتهم الساحقة من العاطلين عن العمل الذين فقدوا كل أمل في العودة إلى حياة ذات ثمر. ويحتج البعض لأن الحضارة الحديثة أفرزت من بين الاختصاصات أطباء للعاملين بهدف رعايتهم وزيادة إنتاجهم، بينما لم تفكر هذه الحضارة الجشعة نفسها لغاية الآن في تخصص آخر أشد أهمية، وهو طب العاطلين عن العمل، لإنقاذهم من سوء وساوسهم.

وقد لا يجد البعض صلة تذكر بين تعساء وادي السليكون في أميركا وجوعى الهند واستشهاديي فلسطين، لكن الأرقام تبين ان غالبية الذين يصبحون على استعداد لإزهاق أرواحهم بالسهولة المفجعة التي تتكرر على الشاشات، هم من الذين حرموا أمان بوابات النجاة الخلفية. فالإسرائيليون الميسورون الذين هددت جيوبهم الانتفاضة ويملكون جنسيات مزدوجة استقلوا طائرات محترمة، ونزحوا خلال السنتين الأخيرتين إلى الوجهة التي تؤمن لهم حاجاتهم وتحمي إنسانيتهم. أما الفلسطينيون الذين سدت في وجوههم المعابر ورفعت حولهم الأسوار العنصرية وحوصروا بالتجمعات الاستيطانية، وضربتهم البطالة وصفعتهم الفاقة فليس أمامهم إلا واحد من خيارين لم يترك غيرهما ثالث: إما انتظار الموت في بيوتهم أو الذهاب إليه بأرجلهم والرحيل بصحبة الجموع العدوة. فكل فعل مع الكثرة يصبح محبوباً ومرغوباُ. والوطنية المترفة لا يمكنها في أي حال ان تولّد طوابير من طلاب الموت، وطوابير مثلها من الأمهات المزغردات المهللات لتبخر أبنائهن من أحضانهن بكبسة زر.

ما حدث في كانكون كان يمسّ العرب الواقعين تحت رحمة الدولار بالدرجة نفسها التي تعني الصين والهند والبرازيل، أي الدول التي استشرست من أجل مصالحها، وصرخت وتجنّدت وقوفاً في وجه مزيد من الاتفاقات الدولية التي تزيد جيوب الأثرياء انتفاخاً وطموح البؤساء ذبولاً واصفرارا. لكن العرب خفت صوتهم حد الاختفاء، فمنهم من يستجدي، متلهفاً عضويته في المنظمة، وبينهم من لا يدرك على وجه التحديد ما يحاك له على مرآه ومسمعه، وهم في كل حالاتهم في تمزقهم وتفتتهم أضعف من ان يملوا شروطهم أو يدافعوا عن وجهات نظرهم. ومع فائق الاحترام لوزير التجارة اللبناني وخطبته الرنانة في كانكون أمام زملائه معتبراً «ان لبنان ولد مع التجارة والأبجدية، وكان رائداً للعولمة منذ ستة آلاف سنة... وأنه والد ووليد لمنظمة التجارة العالمية حتى قبل انضمامه الرسمي إليها»، إلا ان الوزير مروان حمادة يعرف ان زمن الفينيقيين ولّى منذ زمن بعيد، وان لبنان يغرق في مستنقع ديونه، والمؤسسات المالية الدولية تستعد لنفض يدها منه، لأنه عاقّ ومراهق اقتصادياً. وكنا نود لو ان السيد الوزير شكر المنظمة لأنها فكّرت عن العرب وبهم، وكلّفت ثلاث دول عربية التحضير لبرنامج دعم شامل يسهل انخراط أبناء الضاد في هيئاتها بأقل خسائر ممكنة، كأعضاء فاعلين. وبما ان الرأسماليين الجشعين باتوا مضطرين لتذكيرنا بأقل واجباتنا، وقد سئموا رؤيتنا كجزر بشرية هائمة على وجهها، فيجدر الاعتراف بأن العولمة ليست كلها شراً، وفتح حدود الدول أمام تجارة حرة تسرح وتمرح من دون قيود، هي فكرة مغرية للمخلوقات الكارهة للحواجز والسدود والكمامات التي تخرس الأفواه، ومحفزة على العمل والمنافسة. أما وان الدنيا فيها الكسول والنشيط، والعبيط والخبيث، والضعيف والقوي، فليس من وسيلة لإبقاء الغبن والحقد في حديهما الأدنى إلا بسنّ تشريعات تساير الوهن وتسّيجه وتحميه من نزق أسود الغابة ووحوشها. وهؤلاء الذين نمت عضلاتهم واستقووا وعميت أبصارهم عن إخوانهم في الجنس والكوكب، غاية ما استطاعوا فعله وقد بلغهم نبأ انتحار الفلاح الكوري ان أعلنوا بلسان المدير العام للمنظمة: «نأسف لهذا الحادث المحزن». واستكملت الاجتماعات والنزاعات والمظاهرات والمصافحات البروتوكولية والاحتفالات السياحية في كانكون، وستستكمل بالتأكيد جولات المنظمة في دول أخرى ولن يكون بمقدور المستضعفين أن يسحبوا قطعة اللحم التي يحتاجونها من فم غريمهم من غير تكتل صلب وعنيد ومقاوم. وكما قال محامي «البؤساء» وأبرز كتابهم، الموهوب فيكتور هوغو: «الاستسلام للسكون هو للأطفال سعادة لكنه للكبار كل التعاسة».

[email protected]