الدبلوماسية العامة والسياسة

TT

حين زار السفير الأمريكي السابق إدوارد دجيريجيان خلال الشهر الماضي بعض البلدان العربية والإسلامية مع اللجنة التي شكلها بناء على طلب من وزير الخارجية الأمريكي كي يجدوا جواباً على السؤال (لماذا يكرهوننا؟) قال «إن مهمة لجنتنا الأساسية هي البحث في الدبلوماسية العامة الأمريكية والتحفظات لدى العرب والمسلمين على هذه الدبلوماسية، ولكن اللجنة ليست مخولة في البحث في السياسة الأمريكية في المنطقة وأصداء هذه السياسة أو ردود الأفعال المختلفة على هذه السياسة». وكان الجواب الذي تلقاه من كثيرين في سورية وفي بلدان عربية وإسلامية أخرى هو أن تفحص السياسة الأمريكية في المنطقة هو السبيل الوحيد لاكتشاف أسباب الغضب أو عدم الرضى على هذه السياسة، إذ كيف يمكن أن نناقش تحسين صورة الولايات المتحدة لدى العرب والمسلمين دون أن نناقش سياسة الولايات المتحدة حيال هؤلاء؟، وأخذت اقتراحات اللجنة تركز على اللغة التي يستخدمها المسؤولون الأمريكيون أو اللهجة أو المؤشرات التي يمكن أن يرسلوها والتي يمكن أن تقنع العرب والمسلمين بأن الولايات المتحدة لا تضمر الشر لهم ولكن من دون تغيير واحد في منطلقات واستراتيجيات السياسة الأمريكية. وحاولنا أن نقنع اللجنة أن انحياز السياسة الأمريكية الصارخ لكل ما تقوم به (إسرائيل) من احتلال واستيطان وقتل وتدمير بالإضافة إلى احتلال العراق وتدميره في خرق صارخ للشرعية والقوانين والاتفاقيات الدولية يمثل جوهر المشكلة بين العرب والمسلمين من جهة وبين الولايات المتحدة من جهة أخرى. كما أن الربط الذي وضعته الصهيونية بين الإرهاب والإسلام منذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 يشكل أيضاَ إشكالية أخرى لا بد من معالجتها إذا أرادت اللجنة فعلاَ أن تحصل على أجوبة شافية تشكل أساساً لتحسين صورة الولايات المتحدة لدى العرب والمسلمين. ولكن المفاجأة الكبرى لنا جميعاً كانت كيف يمكن أن يفكر المسؤولون الأمريكيون بأنه يمكن لهم تحسين صورتهم لدى العرب والمسلمين دون أن يناقشوا أو يسمحوا بمناقشة سياستهم حيال هؤلاء؟ والسؤال الأساسي هو لماذا لا تسمح الإدارة الأمريكية بمناقشة سياستها مع العرب والمسلمين خاصة وأن هذه السياسة تؤثر على حياتهم وتخطط لتغييرات في بلدانهم ومستقبلهم من دون دراية أو عناية أو حتى معلومات صحيحة.

ولكن الأمر الأخطر الذي تم استنتاجه من تلك الجلسة الطويلة مع اللجنة هو الميل للفصل الكامل اليوم بين الدبلوماسية العامة والسياسة. ففي الوقت الذي يفترض فيه أن تخدم الدبلوماسية العامة القرار السياسي فتشرحه وتوضحه وتبرره وتقدم الأجوبة على التساؤلات بصدده نرى في هذا المثال المذكور آنفاً فصلاً قسرياً بين الدبلوماسية العامة والسياسة وهذا يدل على أحد أمرين اثنين: إما أن صانعي السياسـة فيما وراء البحار لا يؤمنون باستشارة أحد حول سياساتهم لئلا يفهم ذلك كنقطة ضعف أو لئلا يقلل ذلك من هيبة القوة العظمى الوحيدة في العالم التي تتحدث فينصت العالم إلى كل ما تقول من دون أن يعلق أو يناقش أو يُعطى فرصة للاعتراض. وإما أن صانعي السياسة هناك يعتقدون أن مراكز الأبحاث لديهم قادرة على تسويق أي سياسة يرتؤنها لهؤلاء العرب والمسلمين الذين يمكن كسبهم من خلال التحدث عن عظمة الديموقراطية في الولايات المتحدة أو من خلال تقسيمهم إلى مستقلين ومعارضين وسنة وشيعة ودغدغة بعض المشاعر هنا والبعض الآخر هناك كي يتم إقناع البعض منهم على الأقل بالترويج للدبلوماسية العامة الأمريكية بغض النظر عن السياسات والأذى الذي تلحقه هذه السياسات بالشعوب التي تجري محاورتها في هذا الصدد. وأعتقد أن كلا الأمرين لا يخلوان من خطأ جوهري فإذا كانت الديموقراطية الأمريكية تقبل نقاشاً واسعاً لسياساتها الخارجية في الولايات المتحدة فالأحرى بها أن تبحث عن مثل هذا النقاش مع هؤلاء المتأثرين مباشرة بهذه السياسات. أما إذا كان الاعتقاد أن مهارة الدبلوماسية العامة يمكن أن توهم العرب والمسلمين بجدوى إجراءات تجميلية على الأسلوب واللغة دون المساس بجوهر السياسة فليس لدي شك أن استنتاجات اللجنة قد تضمنت ما يوضح استحالة القيام بذلك. ولعل ما نشهده اليوم في منطقة الشرق الأوسط وفي تعامل العرب مع ما يجري على الساحة الفلسطينية يدل على التشويش الذي لحق بأذهان البعض بين الدبلوماسية العامة والسياسة إذا افترضنا حسن النية على كل حال، إذ كيف يمكن للمواطن العربي العادي الذي يرى على شاشته الصغيرة كل يوم قتل الفلسطينيين في منازلهم وتدمير بيوتهم وشن حرب تطهير عرقية ضدهم تهدف بالنتيجة إلى إبادتهم كيف يمكن له أن يفهم تزامن كل هذا مع استقبال شخصيات إسرائيلية في بلدان عربية وحديث قادة عرب عن زيارات مزمعة يمكن أن يقوموا بها لإسرائيل في الوقت الذي يدرك الأوروبيون والغرب وكثير من الإسرائيليين أن شارون و طغمته المتطرفة الحاكمة الآن في إسرائيل هي العقبة الأساسية في طريق السلام وأن سياسته قائمة على قتل الفلسطينيين وتهجيرهم وكسر إرادتهم وبناء إسرائيل الكبرى على أنقاض الحقوق الفلسطينية المشروعة.

إن ما تقوم به إسرائيل اليوم يرتكز على الفصل الكامل بين السياسة والدبلوماسية العامة. ففي الوقت الذي تغتال فيه القادة والأطفال الفلسطينيين في أبشع ممارسات للتطهير العرقي شهدتها الإنسانية تنشط الدبلوماسية الإسرائيلية في المغرب والمشرق العربي والهند وتركيا وأوروبا لإقناع العالم بأن الكثير من العرب يعيشون حالة سلام مع إسرائيل وأن من لا يفعل ذلك هو بعض المنظمات «الإرهابية» والمؤمنون بإزالة إسرائيل من الوجود ولذلك يتوجب على العالم محاربتهم وإبادتهم وتجفيف منابع التمويل عنهم، وفي الفترات التي يتصاعد فيها العنف الإسرائيلي ويتميز بوحشيته المطلقة ضد الفلسطينيين تنجح إسرائيل على إجبار قادة بلدان عربية على استقبال أو التخطيط لاستقبال أو زيارة من ينفذ هذه السياسات العنصرية الوحشية ضد الفلسطينيين ويدلّ هذا الأمر على تصميم إسرائيل على تغييب حقيقة الاحتلال والاستعمار والاستيطان من أذهان العالم ووصم كل من يقاوم الاحتلال بأنه «إسلامي إرهابي» وإقناع حتى الأوروبيين بمقاطعته أو وضعه على القائمة السوداء. وإلا كيف يمكن أن يفسر العرب طلب شارون بشطب المبادرة العربية التي دعت من بيروت لصنع السلام مع إسرائيل إذا ما انسحبت إسرائيل من كافة الأراضي العربية المحتلة إلى خط 4 من حزيران (يونيو) 1967، بينما يقوم الآن شارون نفسه بتوجيه حملة تطبيع واسعة مع الدول العربية ولكن طبعاً دون إنهاء الاحتلال أو عودة اللاجئين أو القدس.

ليس على العرب أو المسلمين أن يبرهنوا أنهم محبون للسلام لأن كل مبادراتهم وتأييدهم للشرعية الدولية وجميع قرارات الأمم المتحدة تري ذلك بكل وضوح ولكنّ على من يحتل أرضهم وينتهك مقدساتهم ويبني جدار فصل عنصري ليحرمهم من الوصول إلى أرضهم ويستمر في قضم أخصب أراضيهم عليه وحده أن يبرهن للعالم أنه يريد السلام فلماذا يقع البعض في مصيدة الدبلوماسية العامة متناسين أن الحديث عن السياسات هو الجوهري وأن رفض هذه السياسات جملة وتفصيلاً يتطلب من الجميع عدم الانخراط في علاقات دبلوماسية توصل للعالم الانطباع أن المشكلة قد حلت وأن كلّ ما تبقى هو بعض المتطرفين هنا وهناك الذين لا يؤمنون بالحلول السلمية. إن الأزمة ليست أزمة ثقة وليست أزمة علاقات عامة ولا أزمة إجراءات بناء ثقة كما يدعي أعداء هذه الأمة ولكنها أزمة الانقضاض الصهيوني الشاروني الشرس على حقوق هذه الأمة وهويتها وتاريخها وحريتها ومستقبلها وأقلّ ما يمكن لكلّ المسؤولين العرب أن يفعلوه في وجه هذه المحاولات الخطيرة هو ما فعله أبناء شعبهم من كافة المستويات والاتجاهات حين ووجهوا بالسؤال عن تحسين الدبلوماسية العامة فأجابوا لا يمكن أن تنجح الدبلوماسية العامة في تحسين صورة الولايات المتحدة ما لم يتم إحداث تغيير جوهري في السياسة الأمريكية حيال العرب والمسلمين وحقوقهم في فلسطين والعراق، وفي هذا الصدد فإن الفيتو الأمريكي الأخير لقرار مجلس الأمن الداعي لردع إسرائيل وتراجعها عن قرار طرد الرئيس عرفات مثال صارخ للتناقض الذي تقع به السياسة الأمريكية، حيث تدعم بشكل مطلق... كل ما يخطط له شارون من إرهاب دولة بينما يواجه شارون معارضة في الداخل الإسرائيلي، وتأكيد على أن أية جهود للدبلوماسية العامة الأمريكية لن تجدي نفعاً ما لم تتخذ الإدارة الأمريكية القرار الاستراتيجي أن تكون بالفعل راعية للسلام على أساس الشرعية الدولية وقرارات الأمم المتحدة وإعادة الحقوق لأصحابها الشرعيين حينذاك فقط يمكن للدبلوماسية العامة أن تكون ذات جدوى.

* كاتبة سورية