أحدث صيحة.. رشوة الفلسطينيين لوقف نضالهم

TT

لا يكف الاميركيون عن اقناعنا بين الحين والآخر بأنهم أبعد ما يكونون عن فهم خرائط الواقع العربي بعامة، والواقع الفلسطيني بوجه أخص. وهو أمر مسكون بالمفارقة، لان تلك الدولة العظمى التي بلغت ما بلغته من شأو في مجالات المعارف والعلوم، نجدها تتخبط في الجهل المطبق حين يتعلق الأمر بالتعامل مع الشارع العربي والاسلامي، حتى ليبدو أنها قادرة على استيعاب كل شيء في الكرة الأرضية، لكنها عاجزة عن فهم ما يجري في بلادنا على نحو صحيح. وسواء كان الجهل هو التفسير الصحيح لذلك السلوك، أم أنه التضليل الذي عمدت إليه قوى وجهات صاحبة مصلحة ليست خافية، فالنتيجة فيما يخصنا واحدة.

تلك حقيقة مستقرة في الوجدان العربي لكن الجديد فيها هو البراهين التي تقدمها الادارة الأميركية كل حين لاثبات صحتها والتأكيد عليها. أحدث تلك البراهين تمثلت في ذلك القرار الأميركي الذي اتخذ لتقديم مساعدات مالية لأرامل وأيتام الانتفاضة، بزعم الحد من تأثير حركة حماس في الشارع الفلسطيني («الشرق الأوسط» 8/29)، وهي الخطوة التي اختارت الادارة الأميركية اللجوء إليها لضرب حماس في الشارع الفلسطيني، ومن ثم لضرب قوى المقاومة الرئيسية والقضاء نهائياً على الانتفاضة، ومن ثم تسكين الشارع الفلسطيني واخضاعه، ذلك انه بعدما تعثرت محاولات ما سمي بتفكيك البنية التحتية لمنظمات المقاومة، كما تنص «خريطة الطريق»، تفتقت الأذهان في أروقة واشنطن عن حيلة «عبقرية» جديدة لسحب البساط من تحت أقدام «حماس» عن طريق استخدام العامل الاقتصادي على النحو الذي ذكرت.

طبقاً للتقرير الذي نشرته «الشرق الأوسط» في هذا الصدد فان الولايات المتحدة بعدما مارست ضغوطاً هائلة لوقف أي مساعدات مالية عربية أو اسلامية لإغاثة الشعب الفلسطيني أو لدعم منظمات المقاومة، فيما يسمى بتجفيف منابع تمويل «الإرهاب»، في أعقاب ذلك لجأت الى خطوتين، الأولى تمثلت في التفاهم مع بعض الدول العربية لتوجيه حوالي عشرة ملايين دولار يفترض أن تخصص لصندوق دعم الانتفاضة (الذي انشأته قمة القاهرة الاستثنائية في عام 2000)، بحيث توزع على الأسر الفلسطينية كقروض تحت حساب اقامة مشروعات اقتصادية، تغنيهم عن تلقي أي مساعدات من «حماس» و«الجهاد الاسلامي».

وفي تقدير الجهات الأميركية انه من الضروري الاسراع باتخاذ تلك الخطوة لسبب اضافي، هو توفير مورد مالي للأسر الفلسطينية التي كان يمولها الرئيس العراقي السابق صدام حسين، والتي فقدت مواردها بعد سقوطه، وذلك قبل أن تبادر منظمتا حماس والجهاد الى القيام بتلك المهمة، ومن ثم استقطاب تلك الأسر وضمها الى التربة التي تفرز ما اسمته الصحف الاسرائيلية بالإرهاب.

الخطوة الثانية الموازية هي ان يوجه جانب من المساعدات الاميركية المنصوص عليها في «خريطة الطريق» لمساعدة الأسر الفلسطينية لإبعادها عن الاعتماد على حماس وتمويلها، وحسب المنشور فان هيئة المعونة الأميركية قدمت معونات الى 34 ألف سيدة فلسطينية، بلغت في العام الماضي 13 مليون دولار، والاتجاه الى التوسع في تقديم تلك المعونات عبر انشاء 18 مركزاً في غزة والضفة الغربية، لتوفير القروض العاجلة للسيدات الفلسطينيات وتدريبهن، للبدء في مشروعات اقتصادية تعتمد أسرهن على عائدها في توفير حاجاتها المعيشية.

لسنا بصدد التحفظ على مبدأ تقديم مساعدات مالية الى الأسر الفلسطينية، فذلك شيء يرحب به ويرجى له أن يستمر، ولكن المشكلة في مقاصد ذلك المشروع ومراميه البعيدة، إذ الواضح ان دخول الولايات المتحدة على الخط لا علاقة له بأي موقف انساني، وإنما الهدف منه هو ضرب حماس واقتلاع وجودها في الساحة الفلسطينية لمصلحة التمكين الاسرائيلي بطبيعة الحال.

هذا التفكير ينبني على عاملين أساسيين يتداخل فيهما الجهل مع التضليل، الأول ان المشكلة في فلسطين هي المقاومة وليست الاحتلال، وهذا التجاهل لحقيقة الاحتلال أصبح قاعدة في التعاطي الأميركي للملف الفلسطيني، أما الثاني فيتمثل في فرضية ان الشعب الفلسطيني منزوع الكرامة، ويمكن تسكينه بمجرد إشباع بطون أناسه ومحاولة حل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، وتلك نتيجة مترتبة على العامل الأول، إذ طالما انه لا توجد مشكلة احتلال، فلابد أن يكون مصدر القلق مشكلات أخرى تعكر على الناس صفو حياتهم وتدفعهم الى الغضب والثورة، الأمر الذي يستدعي حلولا من قبيل تحسين دخول الناس عن طريق المساعدات والقروض.

المتابعون لذلك النهج في التفكير لا تفوتهم ملاحظة ان ورقة الحل الاقتصادي لمشكلة المقاومة الفلسطينية خرجت أصلا من جامعة فلوريدا الاميركية، التي أعد نفر من باحثيها دراسة تبنت الفكرة، ولم تكن الأصابع الصهيونية بعيدة عنها بطبيعة الحال، وتعتريهم الدهشة ان يجدوا ان كل شواهد الواقع الفلسطيني لا تدع مجالا للشك في أن الناس على مدار سنوات الصراع، لم يبدوا أي استعداد للتراجع أو التنازل عن حقهم في الاستقلال والنضال، فان ذلك يكون من نصيب ابنائهم، وقد ختم كلامه قائلا ان الذين يتصورون امكانية «رشوة» الفلسطينيين لوقف نضالهم، يجهلون طبيعة النضال الذي يشنونه ضد الاحتلال.

ان حماس تجسيد لنضال وحلم شعب عظيم قبل أن تكون مؤسسة اجتماعية ترعى الأيتام والأرامل، ولا غرابة في أن تمنى سياسة الدولة العظمى بالخيبة والفشل، طالما أصر المخططون لها على تجاهل مثل هذه الحقائق الناصعة.