إبعاد عرفات ليس الحل

TT

اذا كان ياسر عرفات لا دور أو اهمية له، كما تقول الولايات المتحدة واسرائيل، فلماذا كل هذه الضجة حوله؟ حقا، اذا كان هذا هو الحال، فإن افضل سبيل للتعامل مع عرفات هو التجاهل التام وتركه في مقر الرئاسة المدمر في رام الله حيث من المفترض ان ترصد اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية والاميركية كل كلمة ينطق بها وتعرف هوية كل زواره والقضايا التي يتحدثون حولها.

بيد ان الواقع غير هذا، إذ ان عرفات لا يمكن ان يوصف بعدم الاهمية ثم يعتبر في الوقت ذاته «عقبة حقيقية» في سبيل عملية السلام والتهدئة والسلام بين الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي.

هذا ما تقوله الحكومة والاجهزة الامنية في اسرائيل، وهو ما بررت به قرارها باحتمال ابعاده، وربما اغتياله. وحتى صدور القرار الاسرائيلي ظل عرفات خاضعا لضغوط تهدف الى تخليه عن القبضة القوية على السلطة الفلسطينية ومنح المزيد من الصلاحيات لرئيس الوزراء الجديد احمد قريع. اسرائيل من جانبها تبدو مصممة على شن هجوم على مجمع السلطة الفلسطينية في رام الله. وبصورة عامة يمكن القول ان التوتر كان امرا محسوسا وواضحا.

اعلن بعد ذلك القرار الاسرائيلي وبنهاية نفس اليوم توجهت جموع الفلسطينيين صوب مقر الرئاسة بمدينة رام الله تأكيدا لولائهم وتأييدهم لعرفات، كما خرج الكثير من انصار عرفات الى شوارع غزة مرددين شعارات مؤيدة له.

لم تبد واشنطن من جانبها ارتياحا لقرار الحكومة الاسرائيلية، فقد قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية، ريتشارد باوتشر، ان إبعاد عرفات «لا يعني سوى منحه ساحة اخرى للتحرك»، اذ ان ذلك سيتيح له الفرصة لكي يصبح له دور واهمية ويزور عواصم العالم وربما يصر ايضا على انه زعيم منتخب وان له الحق في مخاطبة الامم المتحدة مرة اخرى.

جاء القرار الاسرائيلي فيما يبدو كرغبة قوية في توجيه ضربة الى عرفات ردا على سلسلة الهجمات الارهابية الاخيرة التي اسفرت عن سقوط المزيد من القتلى الاسرائيليين إضافة الى مئات آخرين قتلوا في السنوات الثلاث الاخيرة خلال الانتفاضة الفلسطينية.

هذه الرغبة ربما تكون مفهومة لأي شعب في حالة حزن، اذ يشيع البعض أحباء لهم تصادف وجودهم في المكان الخطأ والوقت الخطأ وبسبب كونهم اسرائيليين. ولكن عدد الفلسطينيين الذين قتلوا بواسطة الاسرائيليين بلغ ثلاثة أضعاف القتلى الاسرائيليين. بعض الفلسطينيين، مثل قادة حركة «حماس» و«الجهاد» و«كتائب شهداء الاقصى»، وهي التنظيمات المسؤولة عن الهجمات التي تستهدف الاسرائيليين، لقوا مصرعهم اثر عمليات الاغتيال الاسرائيلية المدبرة التي تستهدف كوادر محددة في هذه التنظيمات، وكان الكثير من الفلسطينيين ابرياء شأنهم شأن الاسرائيليين الذين لقوا مصرعهم في الهجمات الفلسطينية.

لا اوهام لدي البتة ازاء ياسر عرفات، فقد تابعته في عدة اماكن في الشرق الاوسط خلال الثلاثين عاما الماضية. ان سجله سلبي، خصوصا لجهة اخفاقاته في التوصل الى قرارات تساعد شعبه، ناهيك من الوفاء بالتزامه عندما يقول انه اتخذ قرارا، بل يمكن القول ان الناس يموتون على الجانبين بسبب فشله وإخفاقاته. عرفات ليس شخصا شجاعا وليس لديه المقدرة على المواجهة والتعامل مع الواقع على النحو المطلوب.

بدا عرفات عقب اتفاقات اوسلو وكأنه تحول من زعيم ثوري الى صانع للسلام، كما بدا ايضا انه قد تخلى بالفعل عن فكرة القضاء على الدولة اليهودية. كان من المفترض ان يتخلص عرفات في ذلك اليوم من زيه العسكري ويرتدي بزة عادية، فالتمسك بالزي العسكري ظل رمزا لعدم رغبته في التخلي التام عن «نضاله المسلح». لذا لا يمكن توجيه الكثير من اللوم الى اسرائيل على عدم الثقة في عرفات.

إلا انه يمكن في المقابل توجيه المسؤولية الى اسرائيل لتوفيرها البيئة التي ازدهر فيها «النضال المسلح» بسبب ممارسات مثل مصادرة الاراضي وهدم منازل الفلسطينيين، والهجمات العسكرية الاسرائيلية على الفلسطينيين، وقصف وقتل الابرياء، وخنق التجارة، وتضييق السفر بالنسبة للفلسطينيين.

كما ان القادة الاسرائيليين الذين قدموا تضحيات كبيرة من اجل السلام وكانوا على استعداد لتقديم المزيد، مثل اسحق رابين وايهود باراك، حل محلهم رؤساء حكومات مثل بنيامين نتنياهو وآرييل شارون. والاخيران يمثلان جانبا من العقلية السياسية الاسرائيلية المرتبطة بفكرة اسرائيل الكبرى وتوسيعها لتشمل الضفة الغربية وقطاع غزة، أي الاراضي التي يعتزم الفلسطينيون إقامة دولتهم عليها مستقبلا.

كتب الصحافي الاسرائيلي يوئيل ماركوس في صحيفة «هآرتز» الاسرائيلية اليومية الاسبوع الماضي: «المشكلة بيننا والفلسطينيين عقب اتفاق اوسلو تكمن في ان الفلسطينيين لم يتخلوا عن الارهاب كوسيلة للتفاوض، فيما لم يكن الاسرائيليون على استعداد للتنازل عن الاراضي والمستوطنات». ويعتقد ماركوس ان شارون ليس على استعداد للتوصل الى اتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين وليس قادرا على القضاء على الارهاب لذا «ليس هناك سلام ولا أمن ولا مبادرة سياسية ولا حتى ضوء في آخر النفق، فما يحدث عبارة عن فشل قيادة في كل ناحية»، على حد تعبيره.

من هذه القيادة جاء قرار الاسبوع الماضي بالتخلص من عرفات، إلا ان القرار لم يحتو على أي رسالة توضح للاسرائيليين مدى مساهمة إبعاد عرفات او اغتياله في جعل الاسرائيليين اكثر أمنا وافضل قدرة على العيش في سلام مع الفلسطينيين والعكس.

ما يمكن قوله هنا هو ان الاجنحة الاكثر تشددا ووحشية هي التي تسيطر على الاحداث في الجانبين، فهي تغذي بعضها بعضا ولا مقترحات لديها حول التوصل الى سلام حقيقي، بل ان هذه الاجنحة اختطفت عملية السلام واصبح على الابرياء من الجانبين دفع الفدية.

* كاتب اميركي ـ خدمة «لوس انجليس تايمز»