السادات شهيدا

TT

«نحسب السادات عند الله شهيدا». عندما قال لي كرم زهدي زعيم الجماعة الاسلامية هذه العبارة، أدركت أهمية ما قال، وتوقعت أن يثير ضجة، ولكني تمنيت ألا يطغى هذا الطرح الجديد المفاجئ على ما تضمنه الحوار الذي أجريته مع زهدي في يوليو الماضي. ولكن حدث ما توقعته وخاب ما تمنيته، فطغى موقف الجماعة الجديد من السادات، الذي أغتيل على أيدي زملائهم، على الطرح الجديد والمضامين التي أراها متطورة. وركزت وسائل الاعلام، التي اهتمت بالحوار، على هذا الموقف الجديد. وهم على حق ـ أي وسائل الاعلام ـ فما طرح هو أكثر الطروحات فتحاً لشهية الاعلام.

هذا الانشداد نحو هذا الموقف الجديد ليخفي تماما ـ وخاصة لدى المراقبين لشأن الاسلام السياسي ـ أهمية التغيرات التي بدت في طرح كرم زهدي في تلك الفترة، وأيضاً ذلك التطور المهم في الكتب التالية التي ألفتها قيادات الجماعة الاسلامية في السجون، والتي يطلق عليها القيادة التاريخية، والتي اعتبرتها العديد من الأوساط والمراقبين مقدمة عودة إلى المجتمع، وفقاً لقوانينه وأعرافه، دون محاولة تغيير بالعنف أو بالقوة. وهي أيضاً ـ أي هذه المؤلفات ـ بمثابة اعتذار عن خطأ وقعت فيه هذه الجماعات طوال الأعوام الماضية، وهو خطأ ليس بالهين. فقد دفع المجتمع ثمناً باهظاً له، لم يقف عند حدود الاقتصاد أو السياسة، بل تجاوزها إلى الدماء وغياب الاحساس بالأمان داخل الوطن. ولم يسلم أيضاً، أعضاء الجماعات الاسلامية المختلفة من دفع ثمن هذه الأخطاء.

يحضرني ما سمعته من ناجح ابراهيم ـ وهو أحد قيادات الجماعة التاريخية ـ عندما قال ما معناه: «ليس الحق أن تثبت على موقف حتى لو كان خطأ فهذا عناد، ولكن الثبات على الحق هو أن تدور مع الصواب أينما يدور». أظن أنها حكمة أتت متأخرة، ولكن أن تأتي متأخرة أفضل من ألا تأتي مطلقا.

خرج كرم زهدي من سجن العقرب شديد الحراسة ـ الواقع جنوب القاهرة ـ بعد أن قضى اثنين وعشرين عاماً وخرج معه ـ أو سيخرج ـ عدد من قيادات الصف الثاني، الذين ثبت التزامهم الأصيل بنبذ العنف، وفقاً لتصريحات المسؤولين الأمنيين. هذا الخروج هو تحول جوهري آخر، حتى لو أرادت السلطات في مصر أن تتعامل مع الموضوع دون تركيز اعلامي أو اعطائه قدراً من الاهتمام. لكن هذا لا ينفي أهمية هذا التطور. فهو يأتي في وقت تتصيد فيه دول العالم كل من يمت بصلة قريبة أو بعيدة بتيارات الاسلام السياسي، وخاصة الجماعات الجهادية أو العنيفة منها. وهذا يدل، في رأيي، على أن هناك رغبة حقيقية في اغلاق هذا الملف الدامي، والذي طال ليقترب من العقود الثلاثة. ويحضرني هنا، تعليق لقيادة أمنية قيل لي تعليقاً على أهمية الافراج عن أعداد أكبر من المعتقلين: «انه آن الأوان للتخلص من أصل الدَيْن والتوقف عن دفع فوائده، أو خسائره». وهو هنا يعني، أن أوان المصالحة قد آن، طالما أن الطرف الآخر، الذي أخطأ يوماً قد أقر بخطئه، حتى لو كان ثمن هذا الخطأ في السابق كبيراً. إلا أن هذه الجماعات وأعضاءها هم افراز لهذا المجتمع، هم أبناء لأخطاء هذا المجتمع السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. وآن الأوان للتوقف ودراسة ما حدث، ولماذا حدث، وكيف يمكن تجنب تكراره؟

خروج هؤلاء، وعلى رأسهم زعيمهم كرم زهدي، يلقي بالعديد من الأسئلة والشكوك المشروعة. الشك في مصداقيتهم في التوبة والعودة. الشك في قدرتهم على الالتزام بما ألزموا أنفسهم به من نبذ للعنف. الشك فيما إذا كان ما أعلنوه ويعلنوه ليس مجرد مناورة أو مرحلة كمون أو ممارسة باطنية. هذه الشكوك جميعها مشروعة، وطرحها في اطار التساؤل والحوار يظل مشروعاً، ولا ينبغي أن يثير حفيظة أي طرف بمن فيهم الاسلاميون أنفسهم، فهم الذين فعلوا في السابق، وهم الذين أعلنوا خطأهم الآن، وهم الذين يملكون إثبات قدرتهم على الالتزام بعد أن خرجوا من وراء الأسوار وعادوا إلى المجتمع.

هذه العودة إلى المجتمع تدفع أيضاً إلى طرح تساؤلات مشروعة أيضاً ـ عن مدى استعداد المجتمع لاستقبال هؤلاء مرة أخرى. ومدى استعداد النظام للتعامل مع العائدين إلى المجتمع. ومدى قدرة المجتمع على استيعابهم داخل مؤسساته. ومدى قدرة القوى السياسية الأخرى على ملء الفراغ السياسي الذي يعانيه المجتمع، وعدم ترك الفرصة لقوى متطرفة تتمدد في هذا الفراغ، وتقود المجتمع الى أتون التشدد مرة أخرى. وتساؤلات أخرى عن مدى قدرة مؤسسات الدولة الأخرى ـ غير الأمنية ـ على التعامل مع هذا الملف، وأقصد هنا المؤسسات السياسية والدينية الرسمية والاقتصادية والاجتماعية. هل كل هذه المؤسسات مستعدة لمشاركة المؤسسة الأمنية في اطار تصور متكامل للتمهيد لاغلاق هذا الملف نهائياً؟

تساؤلات مشروعة وشكوك مبررة، لن يغطي عليها ما أعلنه كرم زهدي منذ ثلاثة أشهر، بأنهم يحسبون السادات عند الله شهيداً.

[email protected]