واشنطن بحاجة إلى قرارات ملحة في الشرق الأوسط

TT

يمكن القول بعد أن تم تصوير فيلم وثائقي لجانبي الجدار الذي تبنيه إسرائيل في الضفة الغربية، إن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يفهمون حقا بعضهم البعض. وهم في حقيقة الأمر يدفعون لي أجرا مقابل ملاحظة كهذه.

إذ ما عادت فكرة من هذا النوع مبتذلة كما يبدو. فأنتم تستطيعون أن تشهدوا دائما جهلا أكيدا بين الطرفين، لكنهما تمكنا غالبا من التغلب عليه لعقد اتفاقيات مصغرة، بل حتى عقد اتفاق أوسلو. لكن سنوات الانتفاضة الثلاث الأخيرة، والهجمات الانتحارية، والتوسع الاستيطاني الإسرائيلي، قد أزال جميعها ما تم تحقيقه قبل ذلك. فالطرفان الآن، مقتنعان بأنه ليس هناك تماما أي شخص في الطرف الآخر يمكن التحدث اليه.

ويسود اقتناع راسخ لدى معظم الإسرائيليين، بأن الفلسطينيين لا يمتلكون سوى عواطف جامحة، لا مصالح يمكن تغذيتها كي تتوازن مع هذه العواطف. فمع وقوع 100 هجمة انتحارية على الإسرائيليين، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، مَن يمكنه أن يلومهم لأنهم يفكرون بهذه الطريقة؟ بالمقابل يعتقد معظم الفلسطينيين أن الإسرائيليين مع عملهم الدؤوب في بناء المستعمرات، لا يمتلكون سوى شهية جامحة للأراضي الفلسطينية، وليس هناك أي مصلحة بالسلام يمكن تغذيتها عن طريق أي اقتراح فلسطيني جاد.

«حينما تتكلم مع الناس على الجانبين، تجد أنهم جميعا متلهفون لاتخاذ خيارات جديدة حتى لو ظل زعماؤهم يؤكدون غياب أي خيارات. فأنا قابلتُ بعض مقاتلي ياسر عرفات من مليشيا «التنظيم»، وما أتذكره هو حينما انفعل احدهم ويدعى أنس عساف امام عدد من الاسئلة، مثل ذلك السؤال الذي طرحته عليه عما سيحدث لو أن إسرائيل طردت عرفات من الضفة الغربية. فقد أجاب بحدة: «سيحول الفلسطينيون المنطقة إلى جحيم فوق رأس إسرائيل». وفي مناسبة أخرى انفعل أيضا حينما تحدثتُ معه حول حلمه بالالتحاق بجامعة ممفيس، حيث يعيش عمه، لدراسة الهندسة.

هذه هي كل الحكاية: أنس على استعداد للموت من أجل ياسر عرفات، لكنه يريد أن يحيا ويلتحق بجامعة ممفيس. فهو لديه مصالح وعواطف، وهذا ما يجعل خلق توازن بينهما أمرا ممكنا.

حان الوقت بالنسبة لإسرائيل كي تحاول ذلك، نعم، مرة أخرى. إسرائيل تمتلك صلابة فائقة. أنا شاهدت كيف كان رد فعل الأفراد الإسرائيليين تجاه الهجمات الانتحارية، عن طريق الوقوف بإصرار في نفس الخطوط التي تقلهم إلى باصات كان قد تعرض بعضها للتفجيرات الانتحارية، والذهاب في اليوم نفسه إلى المقاهي التي قُتل البعض منهم فيها. لكن في الوقت الذي يتصرف الأفراد الإسرائيليون فيها بتماسك كبير، تتصرف حكومتهم كأنما إسرائيل لا تزيد عن كونها ضحية ضعيفة وضئيلة.

حان الوقت لإسرائيل أن تستخدم قوتها الهائلة للقيام بمبادرة ما. فالناس الوحيدون القادرون على إيقاف الإرهاب هم الفلسطينيون. هم لن ينفذوا ذلك بين عشية وضحاها أو حينما تكون حكومتهم مهشمة. مع ذلك يمكن تحقيق هذا الأمر إذا عملت إسرائيل مع رئيس الوزراء الفلسطيني الجديد، وقدمت طلبات حازمة، لكن عليها في الوقت نفسه، ألا تتوقع حدوث ذلك بسرعة، وألا تكون منخوسة على يد حماس بحيث تقرر تجميد كل شيء، وأن تبادر بتفكيك المستعمرات، وإيقاف تلك التي في طريقها للبناء. فمصالح الفلسطيني تكمن في الذهاب إلى ممفيس لا إلى الجنة فقط.

قال ستيفن كوهين خبير الشرق الأوسط: إن «إسرائيل لا تستطيع أن تجبر الفلسطينيين ان يكونوا عقلانيين وأن يسعوا وراء مصالحهم لا عواطفهم، لكنها تستطيع خلق سياق يمكِّن الفلسطينيين من النظر إلى مصالحهم. فمع استمرارها الحثيث في مواصلة بناء المستعمرات والرد على كل استفزاز من حماس عن طريق تقويض السلطة الفلسطينية لم تقدم اسرائيل على الخيار الاول».

إذا كان الفلسطينيون سيضيعون فرصة أخرى بفقدان الفرصة، فيجب أن تكون الفرصة المعنية حقيقية بحيث يعتبرها الشخص الذي يتمتع بتفكير عادل، عادلة حقا. وكنتيجة لذلك، سيكون أفضل احتمال لطرح مبادرة من هذا النوع، هو ظهور المصالح الحقيقية للفلسطينيين، وفي أسوأ الأحوال ستخلق وضوحا أخلاقيا يمكن إسرائيل من شن حرب دائمة ضد الفلسطينيين بدون أن يمتنع 27 طيارا إسرائيليا عن القتال، وبدون ان يقول اي منهم إن بلدهم غير محق في ضرب الفلسطينيين.

من هو ياسر عرفات؟ إنه مجرد شخص إرهابي لكنه لا يشكل أي تهديد استراتيجي لإسرائيل. ولهذا السبب فإن السؤال الحقيقي بالنسبة لي هو: ماذا تريد إسرائيل أن تكون؟ هل تريد إسرائيل مثلما تساءل الفيلسوف الإسرائيلي ديفيد هارتمان «أن تكون بلدا معرَّفا وفق التوراة وقيمه، أو وفق ما تسيطر عليه من هضاب وصخور في الضفة الغربية؟». هل سيكون المثل الأعلى الإسرائيلي معرَّفا عن طريق مستعمرات مخصصة أكثر لأقلية متعصبة، أو عن طريق نوعية المجتمع الذي تبنيه للأغلبية العاقلة؟

أنا أعرف أن أغلب الإسرائيليين يريدون مجتمعا محترما وطبيعيا، لكن زعماءهم الذين تحركهم الآيديولوجيات، قد ضلوا طريقهم تماما، وهم لا يقومون إلا بإهدار أكبر ما يمتلكه الشعب من قدرات، بدلا من توظيفها في خيارات خلاقة أخرى. وإدارة بوش، التي يجب أن تتصرف كحكم يدقق في الوقائع، سقطت عميقا داخل محفظة آرييل شارون إلى الحد الذي ما عاد ممكنا مشاهدتها قط.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»

عدد : 9075