رجاء، قبل أن تنصرف (2)

TT

تعرفت الى الاستاذ محمد حسنين هيكل المرة الاولى في جدَّة، العام 1965. ولم تكن جدة المكان الذي يحب هيكل ان يشاهد فيه. لكنها دوائر السياسة واثمان الاخطاء. يومها قرر جمال عبد الناصر ان الحرب في اليمن قد انهكت مصر، وان الحرب مع السعودية على الخليج اعطت نتائج معاكسة. وقرر ان يذهب بنفسه لعقد مصالحة علنية واتفاق علني مع الملك فيصل. وتأكيدا لمعاني الجوار واهميته جاء على اليخت «الحرية» عابرا البحر الاحمر في نزهة قصيرة ما بين برَّين متجاورين.

البحر كان المؤشر الاول على الجوار. ومحمد حسنين هيكل كان المؤشر الثاني: لا حملات بعد اليوم! لا عنف لفظياً ضد رجل جليل ودولة مسالمة لا تكف القاهرة الناصرية عن التحريض عليها. او هكذا خيل للذين شاهدوا عبد الناصر يترجل من اليخت، والى جانبه مداه وقلمه والمستشار المدني في غابة من العسكريين المتعرفين حديثاً الى الحياة المدنية. مجيء عبد الناصر الى جدة كان يعني في التفسير شيئاً واحداً، وهو ان الرئيس المصري تقبل هزيمته السياسية في الصراع على النفوذ في الجزيرة العربية. غير ان هيكل كان يتنقل في قاعات جدة باسماً، عريض المنكبين، محاولاً ان يطرد ذلك الشعور من عقول الرائين. واما الملك فيصل فكانت تعليماته الى وزير اعلامه الشيخ جميل الحجيلان، واضحة وحاسمة وصارمة: يجب ان يشعر الرئيس عبد الناصر بأن مجيئه الى جدة انتصار له.

كان قد سبق ذلك سنوات من الحملات الشديدة العنف. وخرج هيكل عن الأصول الصحافية التي تعلمها وبرع فيها، لكي يغرق قلمه في حبر «البروباغندا» الخارج على الأصول والحقيقة. وكتب مرة ان السعوديين يرمون النساء من الشرفات. وعندما جاء في تلك الزيارة، صدف خلال البرنامج، ان كان في سيارة الامير مشعل بن عبد العزيز، امير مكة. وفيما هم في جولة على المدينة، التفت اليه الامير مشعل وقال: «ارجو ان تأخذ بالك من الشرفات، لعلك ترى كيف ترمى النساء منها».

قبل نحو ثلاث سنوات امضيت النهار في منزل الشيخ جميل الحجيلان، الذي هو بيتي. وبعد الغداء قمنا الى المكتبة. وبعد قليل قام ابو عماد الى الرفوف المثقلة وعاد ومعه كتاب صغير بالفرنسية، هو احد كتب هيكل المترجمة. وقرأ من احدى صفحاته وصفاً لاهل الخليج وكيف يتصرفون في اوروبا. وكان الوصف شبيها برمي النساء من الشرفات. وقال الشيخ جميل: «اي عربي يقرأ هذا الكلام، يعرف انه لا يعقل حتى في الخيال، لكن ماذا عن الفرنسي او الغربي الذي يقرأه؟ كيف يستطيع ان يميز الحقيقة من الخيال»؟

كان ذلك طبعاً احد كتب هيكل القديمة. هيكل الصحافي الحاد الفائر الذي لا يرى حوله سوى اعداء لعبد الناصر. ولا يرى حوله دوراً عربيا لأحد سوى مصر. ولكن هيكل الصحافي سوف يتحول الى مؤرخ وانما من دون ان ينزع عن الجدار صورة عبد الناصر وذلك الحلم الخفي والمعلن بتوحيد العالم العربي في ظل مصر الناصرية.

لذلك لا يزال هيكل يستخدم عبارة «الاقليم» حتى في مقال الاستئذان بالانصراف. انها التعابير التي صاغها هو لعبد الناصر. كيف سنقيم هيكل قبل ان يرد خلفه الباب، ذلك الباب الرمزي الذي كتب فيه الفرد دوموسيه قصيدته الشهيرة: «الباب اما ان يفتح او ان يغلق». الى اللقاء.