أثر (القرار) الخاطئ في تاريخ البشرية وحاضرها

TT

«لا توجد اسلحة دمار شامل في العراق»: ديفيد كاي رئيس فريق التفتيش الأميركي في العراق .

بـ(القرار الصائب) المبصر: تحيا الأمم وتقوى وترقى.. وبـ(القرار الخائب) الأعمى: تهلك أو تضعف وتتدهور.. هذه ثلاث عشرة كلمة (تلخص) تاريخ البشر وحاضرهم.. فوراء النجاح السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي: قرار.. ووراء الإخفاقات في هذه المجالات جميعاً: قرار .. ومن شاء الأمثال، فهذا قدر منها:

1 ـ في التاريخ القديم: قامت في الصين ومصر والهند وفارس وروما: مدنيات أو دول جيدة البنية والتكوين ـ بالمقياس الكوني العام ـ تمثلت في نهضات سياسية وعلمية وإدارية واقتصادية.. وكان قوام ذلك: (قرار).. ثم انهارت هذه الدول أو الكيانات أو ضعفت وذبلت وتآكلت.. حصل هذا بفعل قرار خاطئ أو خبل سواء كان القرار: اجتماعياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو عسكرياً.

2 ـ وفي التاريخ الوسيط: نهض العرب والمسلمون نهضة نوعية وكمية ممتازة في حقول: العلم والمعرفة والاجتماع والإدارة والسياسة وسائر الفنون الحضارية، وكان (القرار الصائب) وراء هذا التقدم والنجاح.. ولئن سأل سائل: وأين هداية الدين؟ قلنا: إن الفهم الحق للدين يثمر ـ بالضرورة ـ فهما سديدا للسنن الكونية والاجتماعية. ومما لاريب فيه ان هذا الفهم هو: عماد القرار الرشيد.. الم يقل القرآن «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»؟ أو ليس القرار الناجح الفالح السديد الرشيد من صميم التي (هي أقوم)؟ ثم كان وراء انتكاسات (الدولة الإسلامية): الأموية والعباسية ودويلات الأندلس والدولة العثمانية: قرار خائب: اجتماعي وسياسي وعسكري واقتصادي.

3 ـ وفي العصر الحديث: نهضت أوروبا وتقدمت بـ(قرار عقلاني) مستنير، إذ كان هذا القرار هو ركيزة نهضتها: العلمية والإدارية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية.. بيد أن أوروبا كادت تهلك بقرارات ملؤها الحمق والسفه والجنون، قرارات نابليون.. وقرارات الحرب العالمية الأولى.. والحرب العالمية الثانية، فهتلر اتخذ «قرارا» بالمواجهة العسكرية الشاملة مع القارة، وكانت نتيجة القرار:عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعوقين المشوهين، ودماراً عاماً طاماً، وهلاكاً لألمانيا ذاتها: بشراًَ وعمراناً واستقلالاً وسيادة.

وكان وراء (مقتلة) أمريكا في فيتنام: قرار أحمق.

وكان وراء غزو الاتحاد السوفيتي لأفغانستان قرار غبي.

وكان وراء هزيمة يونيو عام 1967 قرار جاهل سفيه نزق أعمى البصر والبصيرة.

وكان وراء احتلال الكويت عام 1990 قرار بليد مستبد مستهتر: ضال في الباعث والوسيلة والهدف.

والسؤال الموضوعي الكبير هو: كيف يتخذ (القرار) الصائب، أو الذي تغلو فيه مقادير الصواب إلى درجة يكون بها أو معها: نفعه اكبر من ضرره، إذ لا يخلو اجتهاد بشري من ثغرات أو آثار جانبية ضارة. ولذا فالمعيار العقلاني والعملي الأهم للقرار هو: رجحان إيجابياته: في الحال والمآل.

وأبجديات اتخاذ قرار من هذا النوع هي:

أ ـ المعلومة الصحيحة الموثقة: فبقدر صحة المعلومة تكون صحة القرار، وأيما زيف في المعلومة سيؤدي ـ بالضرورة ـ إلى زيف في القرار.

ب ـ التحليل العلمي أو الموضوعي للمعلومة. ذلك أن التحليل الخاطئ أو المغرض أو الجاهل يلتوي بالمعلومة التواء يوظف دلالاتها في غير سياقها وغير محلها.. وهذه واحدة من أزمات البشرية المعاصرة. أي أن كثيرا من الناس ومن الجهات لا تنقصهم المعلومة الصحيحة، وإنما ينقصهم منهج التحليل ونزاهة التحليل وأمانته.

ج ـ الرؤية الشاملة للمسرح الوطني والكوني، إذا كان القرار متعلقاً بـ«شأن عالمي»: فقد تصح المعلومة، ويصح التحليل، ولكن القصور يدلف إلى القرار من جهة أن صانعيه يتجاهلون وقائع وحقائق: إقليمية وعالمية.. ومثل هؤلاء مثل طيار ماهر في تقنية الطيران، وفي تراكم ساعات طيرانه: اتخذ قراراً بالطيران دون أن يحسب حساباً دقيقاً لحالات الطقس وتموجات المناخ، ودون أن يضع في تصوره: احتمال وجود طائرات أخرى ـ في اللحظة ذاتها ـ في المسارات التي يطير فيها.. ففي هذه الحال لا يغني عنه: انه ضليع في تقنية الطيران، ولا يغني عنه: ارتفاع معدل ساعات طيرانه، بل انه سيدمر نفسه - وطائرته معه ـ بسبب عاصفة لم يقدر خطرها كما ينبغي، أو بسبب صدام مع طائرة أخرى تجاهل احتمال وجودها.

وليس يكفي لصحة القرار وسلامته:العلم بأسسه ومقوماته البنائية، إذ أن هناك «لوازم» أخرى للقرار من بينها:

1 ـ الكف عن تجاوز «القنوات المتخصصة» أو المحترفة لجمع المعلومات.. ففي عصرنا هذا (عصر التخصص): ثمة أجهزة وهيئات متخصصة في جمع المعلومات من مصادرها ومظانها جمعاً احترافياً مهنياً منظماً لا جمع هواة.. وفي مقدمة هذه الأجهزة: أجهزة «الاستخبارات».. نعم قد سقطت على هذه الأجهزة ظلال مريبة ـ بالحق وبالباطل ـ لكنها في الأساس أجهزة لاستقصاء المعلومات وجمعها وتصنيفها منهجياً أو فنياً .. بهذا التصور أو المعيار يغدو تجاوز هذه الأجهزة: خطراً حقيقياً على المعلومة من حيث الجمع والتوثيق والاستثمار.

2 ـ التحرر من «الآيديولوجية المسبقة» عند تحليل المعلومة. فالتدخل الأيديولوجي في التحليل: يفسد المعلومة. وهذا سبب من أسباب تفوق الغرب على الاتحاد السوفيتي ـ سابقاً ـ في ميدان تحليل المعلومة. فقد كان الحزب يحشر أيديولوجيته في منهج التحليل الموضوعي فتكون خيبة، وان كان الغرب ـ ولا سيما أمريكا ـ قد أخذ ينزلق إلى هذا العقم الأيديولوجي في السنوات الأخيرة.

3 ـ الثقة المجنونة(المهبولة) بأقاويل «المعارضات» السياسية لهذا النظام أو ذاك. فالشأن العام في المعارضات: أنها تحمل حقداً وانتقاماً وهوى جموحاً. ومن هنا تلتاث معلوماتها ـ في الغالب ـ بأهواء الحقد والانتقام والكيد.

تطبيق واقعي على المنهج

ذلك منهج ـ في أهمية القرار وكيفية صناعته واتخاذه ـ: نحسبه سليماً وصائباًَ.

ونقدم نموذجاً تطبيقياً على هذا المنهج فنقول:

ـ إن الأزمة الطاحنة الراهنة التي تحيق بالعالم إنما هي أزمة قرار، أي أزمة (معلومة) ـ في الأصل ـ وما ينبني على المعلومة الخاطئة أو المضللة من أزمات أخرى.

وكلما كان القرار كبيراً كان الخطأ أو الخطر بحسبه، ولذا قيل: إن أخطاء الكبار كبيرة.

إن الحرب على العراق: قرار استراتيجي كبير، ولكنه قرار بني على معلومة مغلوطة، أو كاذبة، أو مشكوك في صحتها ـ على اقل تقدير.

لقد استند قرار الحرب الى معلومات ثلاث: أساسية:

1 ـ معلومة: أن العراق يملك أسلحة كيماوية وبيولوجية، وقد تبين أن هذه(كذبة)، فهانز بليكس المعتمد الدولي للبحث عن أسلحة الدمار الشامل في العراق يقول: «إن بريطانيا والولايات المتحدة تلاعبتا في قضية أسلحة الدمار الشامل على نحو تبرران به قرارا مسبقا وهو شن حرب».. وقال الزعيم البريطاني، ورئيس الأغلبية في مجلس العموم البريطاني، روبن كوك: «أنا مندهش من مقولة: إن العراق يملك أسلحة كيماوية وبيولوجية وان هذه الأسلحة هي سبب الحرب». ورجل في هذه المكانة هل يمكن أن يندهش لو كان لدى الاستخبارات البريطانية معلومات صحيحة وموثقة في هذه القضية وهو في موقع يتيح له الاطلاع عليها؟! وها هو رئيس الفريق الامريكي للتفتيش عن اسلحة الدمار الشامل في العراق ديفيد كاي يعلن في تقريره الرسمي: «لم نعثر على اسلحة دمار شامل في العراق».

2 ـ معلومة أن العراق اشترى يورانيوم من النيجر، وهي معلومة توثق كذبها، على يد دبلوماسي أمريكي، عوقب بتشويه زوجته، بل عوقبت الولايات المتحدة كلها بتحطيم تقاليد مرعية وهي: عدم كشف العملاء السريين لـcia.

3 ـ معلومة: العلاقة بين صدام حسين وتنظيم القاعدة، وهي معلومة من التهافت بحيث سارع أعلى رأس في الولايات المتحدة إلى البراءة منها ـ لكي لا تتخذ مطعناً قاتلاً في الانتخابات الرئاسية ـ فقد قال هذا الرأس: «لا دليل على علاقة النظام العراقي البائد بأحداث سبتمبر».

هكذا اتخذ القرار الكبير بناء على (معلومة) خاطئة أو كاذبة..

وهذه حالة مأساوية تثير أسئلة جوهرية وحادة:

كيف يثق الناس بالقرار إذا قام على معلومات متهافتة؟

كيف تحمى الاجهزة المختصة من «التسيس» بمعنى أن تظل المعلومة «موضوعية»: خالصة للمصلحة الوطنية العليا، ولا توظف توظيفاً ظرفياً أو موسمياً لا علاقة له بالمصلحة الحقيقية وطويلة المدى.. لقد صُممت من قبل خطة لغزو كوبا بعيداً عن معلومات الأجهزة المختصة، ولكن الـCIA عارضت ذلك بقوة تحت رئاسة ألن دالاس، فنجحت الولايات المتحدة بالمعلومة الصحيحة ـ والموقف السليم المبني عليها ـ من مأزق رهيب، وسقطة كبرى.