فلسفة التاريخ العربي

TT

أصبح التاريخ العربي يقذف حاليا بأعمق ما في أحشائه من مكبوت، أو موروث قمعي، أو رواسب تاريخية متراكمة. وهذه ظاهرة صحية ينبغي ان نحيّيها. وينبغي ان نتفاءل بها لا ان نخشاها كما يفعل الآيديولوجيون العرب. فهؤلاء من قومويين أو ماركسويين أو سطحيين غطَّوا على المشاكل الحقيقية للمجتمعات العربية طيلة اكثر من نصف قرن. وراحوا يتحدثون عن مشاكل وهمية لا علاقة لها بالواقع العربي. راحوا يتحدثون عن كل شيء ما عدا الشيء الذي ينبغي التحدث عنه! واعتقدوا انهم بذلك قد حلّوا مشاكل مجتمعاتهم أو تجاوزوها. فإذا بها تنفجر في وجوهنا كالقنابل الموقوتة، واذا بنا بعد خمسين سنة نعود الى نقطة الصفر من جديد. وهذا دليل على انك كلما غطَّيت على المشكلة، تفاقمت اكثر وازدادت استفحالا وخطورة. الحل الوحيد للتخلص منها هو ان تدخل فيها مباشرة، ان تخوض معها معركة الصراحة على المكشوف، ان تتداوى منها بها.

لماذا اقول هذا الكلام؟ لاني استمعت يوم الاحد الماضي بتاريخ 2003/9/28 الى مقابلة مهمة مع الشيخ الجليل يوسف القرضاوي ضمن برنامج الشريعة والحياة على قناة «الجزيرة». وقد كرس البرنامج لمعالجة الخلاف المذهبي السني ـ الشيعي وكيفية تحاشي مخاطره. وقال الشيخ القرضاوي كلاماً مهماً ادهشني بعقلانيته واتساع أفقه واحساسه بالمسؤولية. قال باختصار شديد: ما يجمع بين المذهبين اكثر مما يفرق بكثير. يجمع بيننا نبي واحد، وكتاب واحد، وأركان الاسلام كلها. بقيت مسألة الخلافة والصحابة. وهنا نلاحظ حصول تطورات مهمة في الساحة الايرانية والشيعية بعامة، فقد سُحِبت الكتب المدرسية التي كانت تتعرض للصحابة بأذى من التداول. وهكذا زالت العقبة الكأداء التي كانت تحول دون التقارب بين المذهبين. وأنا اقول شخصيا: إذا ما انضاف الى ذلك اعتراف اقطاب الاسلام السني بما حصل للطوائف الشيعية من اضطهاد على مدار التاريخ تقريبا، وليس فقط في كربلاء، فان التقارب سوف يصبح ممكنا. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن مذهب المعتزلة الذي انقرض تماما من كثرة الملاحقة والاضطهاد. وقد كان اكثر المذاهب عقلانية في الاسلام.

ثم قال الشيخ القرضاوي بأنه صلى مع المسلمين الشيعة في ايران، بل وأمَّهم في الصلاة بدون اي مشكلة، ثم حذَّر من شطط الغلاة والمتطرفين الذين يريدون ايقاع الفتنة بين الطرفين، وبالتالي اشعال الحروب الأهلية المدمرة.

بل ووصل الاتساع الفكري بالشيخ القرضاوي الى حد الاعتراف بشرعية ابناء الأديان الأخرى كاليهود والمسيحيين باعتبار انهم أهل كتاب ويؤمنون بالله ودين التوحيد كالمسلمين. واستشهد على ذلك بآيات بيِّنات من القرآن الكريم. ثم اردف قائلا: اذا كان القرآن يدعونا الى المعاملة الحسنة مع اتباع الاديان الأخرى، فما بالك بتعاملنا مع بعضنا البعض؟ وكيف يجوز الا نعترف ببعضنا بعضا ونتجاوز الحزازات القديمة التي شكلت شرخا في تاريخ طويل. وينبغي ان يشمل الاعتراف ايضا ابناء الطائفة الاباضية الكريمة المنتشرة في دولة عمان بشكل خاص، ثم في بعض المناطق الأخرى كجبل النافوسة في ليبيا، أو منطقة المزاب في الجزائر... الخ.

هذا الكلام مهم اذ يصدر عن رجل دين كبير يصل كلامه الى ملايين المشاهدين في لحظة واحدة. وتأثيره أهم بالتالي من تأثير عشرين حزبا سياسيا عربيا! وقد سمعت كلاما يشبهه في جهة اقطاب الاسلام الشيعي كالشيخ محمد حسين فضل الله، أو الرئيس محمد خاتمي، أو سواهما. وحتما فإن اقطاب الاسلام الاباضي في مسقط يمشون في نفس الاتجاه. وقد اصدروا مؤخرا مجلة «التسامح». وينبغي ان ننوه هنا ببعض المبادرات الايجابية التي اصبحت تظهر هنا أو هناك، وبخاصة مبادرة الامير عبد الله بن عبد العزيز لفتح ابواب الحوار بين مختلف التيارات الروحية والفكرية والمذهبية الموجودة في المملكة العربية السعودية. وكذلك لا يغيب عن بالنا مؤتمر «التقارب بين المذاهب الاسلامية» الذي عقد في البحرين مؤخرا.

كل هذا شيء ايجابي وصحي ويمشي ضد تيار المتطرفين الذين يكفّرون معظم البشر ويستحلون دماءهم ويخرجون على الروح الحقيقية أو التفسير الصحيح للمعاني القرآنية. وكل ذلك بسبب الجهل المتراكم منذ عدة قرون، وبسبب عصور الانحطاط والعصور العثمانية والانقطاع عن حركة العلم والابتكار.

كل هذا شيء مهم اذن ويؤدي الى تهدئة الخواطر وبخاصة لدى عامة الشعب الذين لا يزالون محكومين بتصورات القرون الوسطى. وهؤلاء يمكن ان يُستَفزوا في اي لحظة ويهيجوا على بعضهم البعض اذا ما عرف اقطاب التطرف كيف يلعبون على وتر العصبيات الطائفية أو الحزازات المذهبية. ولكنه لا يكفي بالطبع، فعلى المدى البعيد نحن بحاجة الى شيء آخر. وهنا تنتهي مهمة الشيخ القرضاوي، أو محمد حسين فضل الله، أو حتى محمد خاتمي، وتبتدئ مهمة محمد اركون. فالتحرر الجذري، اي النهائي، من العصبيات الطائفية التي تهدد المجتمعات الاسلامية والعربية لن يتحقق الا بعد خوض معركة الصراحة مع الموروث القديم على المكشوف. وهي المعركة التي سوف تشغل القرن الواحد والعشرين كله، أو حتى منتصفه على الأقل.

ومن يخوضها منذ اكثر من ثلاثين سنة ويكرس لها كل ترسانة العلوم الانسانية الحديثة؟ انه صاحب نقد العقل التقليدي في الاسلام. فهو وحده القادر على الكشف عن اللامفكَّر فيه أو المستحيل التفكير فيه داخل العالم الاسلامي المعاصر. وهو وحده القادر على تفكيك كل التحجُّر العقلي أو الانفلاتات العقائدية المزمنة التي تتحكم بعقولنا منذ ألف سنة تقريبا. لا استطيع ان ادخل هنا في تفاصيل كل هذا الفكر المتشعب الذي امضيت اكثر من ربع قرن في ترجمته الى العربية.

ولكني سوف اكتفي بقول ما يلي: نحن بحاجة الى فلسفة تنويرية عربية تطرح الأمور من جذورها أو شروشها ولا تتوقف في منتصف الطريق. فالتحرير الفكري إما ان يكون كاملا أو لا يكون. بالطبع فإن ما نحلم به لن يتحقق، أو قل لن ينتصر، قبل عشرين أو ثلاثين سنة على الأقل. ولكن ينبغي ان نمشي في اتجاهه أياً تكن العراقيل والصعوبات. فبدون حسم هذه المسألة لن تقوم للحضارة الانسانية قائمة في اي مجتمع عربي أو اسلامي.

لقد اثبتت تجربة الشعوب الاوروبية ان تصفية الحسابات التاريخية مع الذات هي الشرط الضروري والمسبق للانطلاقة الحضارية. ولكن المشكلة هي ان اغلبية المثقفين العرب لا يزالون يتجاهلون خطورة الوضع. فما بالك بعامة الشعب وعتاة الآيديولوجيين العرب وجحافل الاصوليين التي تشبه البحر الهادر؟ وما عدا قلة قليلة من أمثال نصر حامد ابو زيد، أو العفيف الاخضر، أو جورج طرابيشي، أو عبد المجيد الشرقي، أو عبد الله العروي، أو حسن حنفي، أو فؤاد زكريا، أو محمد سعيد العشماوي، أو احمد عباس صالح، أو صادق جلال العظم، أو عزيز العظمة، أو محمد الشرفي، أو العياض بن عاشور، أو أدونيس، أو سواهم، فإنك لا تسمع احدا يثير هذه المشاكل العويصة أو يخرج على الخط السائد والآيديولوجيا المهيمنة، بل وتصل المغالطة ببعضهم الى حد التحدث عن الخيار الديمقراطي أو حقوق الانسان وهم يرفضون ان يطرحوا سؤالا واحدا على اللاهوت الظلامي الذي ينسف فلسفة الديمقراطية وحقوق الانسان من أساسها، بل ويتحالفون مع اتباع هذا اللاهوت الطائفي الذي يدق اسفينا عميقا في صميم الوحدة الوطنية للشعب. لا، لن ينهض البناء العربي الجديد إلا على انقاض البناء القديم وبعد تفكيكه حجرة حجرة، وجدارا جدارا، ولذا فإني اشكر بن لادن وصدام حسين على وجودهما! فقد برهنا اولا على صحة نظرية هيغل من حيث ان التاريخ لا يتقدم احيانا إلا من أسوأ أبوابه أو من أبوابه الخلفية. وأتاحا ثانيا للعالم كله ان يلتفت الى حجم المرض المستفحل الذي يعاني منه العالم العربي والاسلامي منذ عدة قرون. ينبغي ان نشمل بالشكر ايضا حركة «طالبان». ولأنهما ثالثا، عجلا في اندلاع المعركة الفكرية الكبرى دون ان يريدا ذلك أو يتقصداه. فبعد الآن لن تتوقف هذه المعركة حتى تصل الى نهاياتها. كل ما كنت احلم به منذ ربع قرن اصبح حقيقة واقعة الآن. لقد اصبحت مشكلتي الشخصية مشكلة العالم كله! والله ما نمت يوما ولا استيقظت الا عليها. وسواء أكحلت عينيّ بمرأى شمس الحرية وهي تسطع على العالم العربي أم لا، فإن ذلك لن يغير في الأمر شيئا.