سبعة ادوارد سعيد

TT

اذكروا موتاكم بالخير. وهو ما فعلته مع فراق ادوارد سعيد. لكن للخير حدودا. وسبعة ايام خير كافية واكثر من كافية في عالمنا العربي. حزَّ فراقه في نفسي بصورة خاصة ان يقع بعد ايام قليلة من تهجمي عليه في هذه الزاوية. كان هذا المفكر العملاق قد عقد العزم على المضي بالحياة ومغالبة المرض، لكنني اشعر بأنه فقد هذه العزيمة بعد ان سمع ان كويتياً عراقياً من سوق الجديد قد تعرض له، فآثر مفارقة هذا العالم. قال لنفسه، لهذا الحد وصل الامر بي؟ صعلوك من صعاليك سوق الجديد يتناولني بالشتم؟ فأهلا بك ايتها المنية.

ادوارد سعيد واحد من مجموعة المفكرين والمناضلين الفلسطينيين المسيحيين. تميزت هذه الفصيلة بصحيفتها الناصعة. لم اسمع عن احد منهم لوث يديه بالفساد او الانتهازية او الخيانة او التجسس او العمالة لاسرائيل. كلا ولا بحماقات العنف الاعمى، طالما سألتهم ما الذي يحملكم على هذا الاخلاص الواعي للقضية الفلسطينية؟ ما زلت ابحث عن الجواب.

ولكن سؤالا آخر وجدت جوابه. لماذا لم يعهدوا اليهم بقيادة السفينة؟ الجواب هو لانهم لم يكونوا ليسمحوا للبحارة بنهب خزينها. ادوارد سعيد فارس من هؤلاء الفرسان ولم ينزع دروعه ويترجل من صهوة جواده حتى الساعات الاخيرة من حياته.

طوال مرضه الاليم، سهر على صحته طبيب من اطباء نيويورك اليهود وعالجه بأحدث وانجع الوسائل العلاجية لهذا المرض الخبيث. طبيب يهودي يسهر على سلامة مناضل فلسطيني يحارب اسرائيل. وكذا كان الأمر مع صديقي انيس صايغ (مسيحي آخر) فبعد تعرضه للرسالة المفخخة التي انفجرت في وجهه ومزقت عينيه جاء الى لندن ليستنجد بمهارة اختصاصي يهودي. سأله هذا، من بعث اليك بهذه الرسالة المقنبلة؟ لم يجبه انيس تأدبا ومبضع الجراح اليهودي في عينه.

هذا هو المأخذ الذي اخذته على ادوارد سعيد. اذا كان بالامكان او من الحكمة، ان يطمئن عربي على تسليم روحه او بصره الى طبيب يهودي، فِلمَ لا يمكن له ان يرى شؤونه وحقوقه يديرها ويسهر عليها يهودي آخر؟ الكثير من اغنيائنا عهدوا بشؤونهم المالية الى ادارة محامين ومستشارين ومحاسبين يهود او لبنوك وشركات مالية يهودية.

لقد لمح ادوارد سعيد في مناسبات مختلفة الى فكرة الدولة الواحدة في فلسطين بدلا من دولة يهودية عاتية ودولة عربية عليلة. لقد عاش اليهود بسلام لمئات السنين في ظل العرب، لم لا يعيش بعض العرب بسلام في ظل اليهود؟ ها هم يعيشون بسلام في ظل الفرس في ايران وفي ظل الاتراك في تركيا. المؤسف انه لم يكرس بقية حياته لاقناع الآخرين بهذا الخيار العقلاني الوحيد الذي بقي بأيدينا. ولكن ليس من العدل ان نحاسبه على ذلك. فالمرض مزق بقية حياته. ومثلما نعرف ان العقل السليم في الجسم السليم يجب ان نتذكر ان الذهن الكليل في الجسم العليل. ولكنه على الاقل مات على فراشه، وهي نعمة قلما حظي بها مفكر حر بيننا.

وداعا يا ادوارد سعيد.