وقائع تعاطي صدام الكاذب والخطر مع القضية الفلسطينية

TT

إنه لأمر محزن جداً أن أجد بعض العرب، وبالأخص بعض الفصائل الفلسطينية، ما زالوا يعتقدون بأن صدام حسين كان داعماً للقضية الفلسطينية، ومهتماً بحقوق الشعب الفلسطيني.. هذا الاعتقاد كان وهماً وخيالاً.

إن الوقائع التي سأسردها هنا، لا بد أن تثبت لمن لا زالت في عيونهم غشاوة، بأن صدام حسين بسلوكه وبتصرفاته وتوجيهاته، لم يكن يستخدم القضية الفلسطينية إلا كدعاية رخيصة يحتمي وراءها لخدمة إسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل في مسيرة أوهامه وطموحاته الشخصية. ولو قمنا باستعراض أفعاله، وليس أقواله أو خطبه الرنانة، لوجدنا أن جميع السياسات التي اتبعها داخل العراق وخارجه، إنما انصبت في النهاية لمصلحة إسرائيل.

إن الذي خبرته من عملي كسفير للعراق، يقدم دليلاً قاطعاً بأن صدام حسين استعمل القضية الفلسطينية كغطاء لتدمير الحق الفلسطيني في أرضه وحقوقه المشروعة. ولنستعرض باختصار ما أقدم عليه صدام منذ تسلمه رئاسة الجمهورية العراقية عام 1979 وانفراده بالسلطة المطلقة:

1 ـ كان أول عمل قام به هو اغتيال أحمد حسن البكر عن طريق أحد الأطباء، حيث زرقه بحقنة دواء إضافية (إنسولين) لمرض السكري الذي كان يعاني منه البكر، إذ لم تمض سوى دقائق معدودات بعدها، حتى سقط البكر جثة هامدة في حمام منزله المتواضع في دور السكك في منطقة الكرخ ببغداد. نعم، كان البكر يعاني من مرض السكري وبعض الأعراض المرضية الأخرى، ولكنها لم تكن بالدرجة التي أوصلته إلى الموت المفاجئ، حسب ما أخبرني به طبيباه الدكتور محمد علي خليل، وقبله الدكتور فرحان باقر. لقد سارع صدام الى اغتيال البكر وعدداً من أعضاء قيادة الحزب ومجلس قيادة الثورة، وبالأخص القياديين الذين كانوا يؤيدون البكر في نهجه الوحدوي ورغبته في الإسراع بإعلان الوحدة العراقية - السورية في أواخر أيام رئاسته للجمهورية. لقد كان البكر يريد إعلان الوحدة مع سوريا، وإخراجها إلى حيز التنفيذ. وقد تم ذلك في بغداد بحضور الرئيس حافظ الأسد.

أما الذين أعدمهم صدام، فقد كانوا يسارعون جاهدين في إقامة الوحدة التي تم الاتفاق عليها وهم: عدنان الحمداني، غانم عبدالجليل، محمد عايش، عبد الحسين الشمري، محمد محجوب، وغيرهم من أعضاء القيادة. وبهذا العمل الإجرامي هدم صدام أمل العرب والفلسطينيين في وحدة عربية، لو قدر لها الظهور على المسرح السياسي العربي والعالمي، لما تجرأت إسرائيل على الاستمرار في عدوانها على الشعب الفلسطيني والشعب اللبناني، ولما استمرت في بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة وخاصة في الضفة الغربية وقطاع غزة.

2 ـ في الوقت الذي كانت أدبيات حزب البعث تعتبر القضية الفلسطينية العمود الفقري لنضال الحزب المزعوم وأساس قضية العرب، أقدم صدام على غزو إيران والدخول في حرب طاحنة دامت ثمان سنوات... حرب استنزفت كل طاقات العراق العسكرية والاقتصادية.. حرب لم تصب بأي شكل من الأشكال في صالح القضية الفلسطينية أو في صالح العرب بشكل عام. إن تلك الحرب الطاحنة لم يستفد منها إلا إسرائيل لأنها أضعفت وأهدرت كل طاقات العراق ولسنوات طويلة مضت... وسنوات طويلة آتية.

3 ـ بعد توقف الحرب العراقية - الإيرانية، وبدلاً من أن ينصرف صدام لبناء ما هدمته الحرب، أقدم على غزو الكويت. كانت النتيجة وخاصة بعد أن رفض الانسحاب من الكويت خلال فترة الشهر والنصف التي حددها مجلس الأمن، تدمير ما تبقى من بنية العراق العسكرية والبشرية والاقتصادية. كل هذا وصدام لم يستمع إلى النصائح التي قدمها له الاتحاد السوفياتي وفرنسا والأمين العام للأمم المتحدة خافير ديكويار. وأكثر من ذلك فلم يستمع صدام الى ما حاولتُ من خلال واجبي كسفير في واشنطن أن أوضح له من خطورة الحالة. ولم يقرأ ما كنت أبرق له أو أخبره خلال اجتماعه معي، من أن العراق سيدمر إذا لم ينسحب من الكويت قبل الخامس عشر من شهر كانون الثاني عام 1991. وأذكر جيداً أنه في آخر لقاء لي مع صدام في شهر ديسمبر عام 1990 وبيان وجهة نظري حول خطورة الموقف، غضب صدام وقال لي بالحرف الواحد: «دكتور.. إذا كان للأمريكان جرأة في ضرب العراق فهذا العراق أمامهم.. إن أم المعارك هي المنتصرة.. ستدمر أمريكا ومعها ستتساقط الأنظمة العربية الموالية لأمريكا.. إن أم المعارك هي بداية لنهضة العرب».

وماذا كانت النتيجة؟ تدمير العراق تدميراً كاملاً مع سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي وشق الصف العربي. وفوق هذا كله إخراج الفلسطينيين من الكويت وبعض الدول العربية.

4 ـ من المحزن حقاً أن تنطلي بعض تصرفات صدام على الكثير من العرب بشكل عام والفلسطينيين بشكل خاص، عندما أرسل صدام بعض صواريخه لضرب إسرائيل. ولم يتبادر إلى ذهن هؤلاء أن هذه الصواريخ التي حطت في إسرائيل لم تكن تحتوي على أية متفجرات. وماذا كانت النتيجة دفع العراق ملايين الدولارات تعويضاً لإسرائيل نتيجة تلك الصواريخ غير الفعالة.

5 ـ ولا بد لي أن أكشف سراً عن زيف صدام في دفاعه عن القضية الفلسطينية. إذ بعد تعييني سفيراً للعراق في واشنطن عام 1989 وقبل مغادرتي بغداد استدعاني طارق عزيز، وكان وقتها وزيراً للخارجية ليبلغني بتوجيهات صدام حسين. وكانت التوجيهات لي بأنه لا يجوز لي انتقاد إسرائيل أو التحرش أو الإشارة إلى سياستها ضد الفلسطينيين وعدم التطرق إلى حق الشعب الفلسطيني. وبمعنى آخر، فإن توجيهات صدام التي نقلها لي طارق عزيز، أن سياسة العراق هي التغاضي عن قضية فلسطين أو شتم أو انتقاد إسرائيل.

بعد لقاء طارق عزيز وتلقي توجيهاته، استدعاني نزار حمدون (وكيل وزارة الخارجية وسفير العراق السابق في واشنطن) وقدم لي قائمة بأسماء بعض أعضاء الكونغرس الأمريكي، وأكد لي ضرورة الاهتمام بهم ولقائهم باستمرار وتمتين الصلات بهم، مع ضرورة عدم التطرق إلى موضوع إسرائيل، والامتناع كلية عن توجيه أي انتقاد لها. لقد ضمت تلك القائمة أسماء أعضاء الكونغرس الموالين لإسرائيل.

6 ـ وأخيراً، أود الإشارة إلى أن صدام حسين كان وراء تأسيس جبهة التحرير العربية. وعندما استفسرت رسمياً عن سبب خلق هذه المنظمة الفلسطينية، كان الجواب غامضاً ولكني استشففت منه أن الهدف من وراء خلق هذه المنظمة هو شق الحركة الفلسطينية وإضعاف دور منظمة فتح التي كانت تتصدر المقاومة الفعالة.

إنني على يقين بأن صدام كان يستخدم القضية الفلسطينية لإشباع غروره الشخصي وتحقيق طموحاته القيادية الواهية. إن المساعدات المالية التي قدمها صدام لبعض الفلسطينيين إنما كان الهدف منها بناء شعبية له في صفوف بعض العرب، في نفس الوقت الذي كان يدمر فيه نسيج المجتمع العراقي، ويبدد ثروات العراق ويدفن أبناءه في المقابر الجماعية، ويرمي بشباب العراق في غياهب السجون والمعتقلات تحت أرض العراق وفوق ترابه الطاهر.

* سفير العراق السابق لدى الولايات المتحدة الأمريكية