... بل كان وهما من خيال فهوى

TT

أبداً لم تكن الناصرية خداع بصر، ولم تكن رجع صدى، ولم تكن أحلام يقظة. فما زالت الناصرية تعيش داخل الكثير في شوارع المدن والقرى المصرية. يدافع عنها أبناء أجيال عاشت كل مراحل الخمسينات والستينات، منهم من قضاها في السجون، ومنهم من ظل يلهث وراء ما كان يلقى اليه من فضلات السلطة، ومنهم من ينتظر بعد ما بدلوا كل شيء تبديلا، بل وأورثوها الى أجيال جديدة صغيرة لا تعرف عن الحرب ونداءاتها مثل «طفي النور» ـ توقعا لغارة، أو دهان زجاج النوافذ باللون الازرق. أجيال جاءت بعد حرب أكتوبر، تنتظر القمح الأمريكي وتلعن الأمريكان لو تأخر موعد وصوله الى الموانئ. وهناك من لا يعرف عنها شيئا ولا يهمه معرفة شيء البتة. يقضي وقته داخل كنتاكي وماكدونالدز، ويركب السيارة الفارهة، ويبدل الموبايل كل شهر. وهناك كثرة منسية لا تعرف مصدر لقمة العيش، ولا كيف تصل اليها، وهم أيضا ينتظرون عودة الابن الضال ومخلصهم القومي. انتحر أحدهم مؤخرا لأنه عجز عن توفير زي المدرسة لابنائه.

لا يفعل كل ذلك سوى الجراد. لا يبقي ولا يذر. لا يترك الحقل الأخضر إلا يابسا اصفر. ثم يغني عندليبه «نفوت علي الصحراء تِخضر»، كأحلام يقظة من أجل مزيد من انتصاراته التجفيفية. قالها العندليب وسط اسراب الجراد: «ريسنا ملاح ومعدينا». ولم يذكر ركاب السفينة أن العندليب استدرك بعدها بأغنية «أني أغرق أغرق.. أغرق».

لم تجفف منابع الخير والنماء فقط، بل تسلل الجراد إلى منابع الثقافة لتجفيف العقل. لم يبزغ في حقل مصر، منذ سرت فيها سياسة التجفيف القومي ـ زمن يوليو ـ من هم في قامة طه حسين، أو لطفي السيد، أو لويس عوض. فقر الثقافة وثقافة الفقر نتلمسهما في كل مضاربنا وتخوم قرانا. القرية المصرية بعد أن أعاد البطل القومي تشكيلها بخمس فدادين لكل معدم، دعاهم فيلسوف الجراد وأبواق دعايته بأغاني شعبية ليزرعها «فلفل وشطيطة ويرمي بهم صاحب البرنيطة»، بينما الزعيم القومي يتسول القمح من الكاو بوي.

الفلفل والشطيطة تحرق البني آدم مرتين إذا ما أكلهما. الروائيون المصريون القوميون منهم و اليوليويون، عبروا عنها بعد ذهاب البطل إلى مثواه الأخير. كتبوا عن شكل القرية الملتهبة. لم تعد بها نخوة من أي نوع. لقد جف الكثير من النخوة السياسية والاجتماعية. قصة فيلم المواطن المصري تخلو من فرد واحد له كرامة، وأيضا فلاحي قرى مصر الذين مر عليهم الرئيس نيكسون في رواية بطلها اسمه «الضبيش عرايس».

بعد 4 سنوات فقط من موت الزعيم، افتعل الرجال من ابناء يوليو أعراض حمل النساء من أجل كيس قمح أمريكي. في الماضي كانت عين الاستعمار على الفوائض لضمان استمرار إدرار اللبن من الاصول بينما الجراد يأكل الأصول. هنا يصبح الاستعمار أكثر وطنية. التمصير ثم التأميم، تزامنا مع الوحدة المصرية السورية. الصرف على مشاريع الوحدة من الأصول الإنتاجية ومغازلة غرائز الجماهير، خرّب الإنتاج وافشل الوحدة. ولأن «الزَّن على الودان اقوي من السحر»، ولتغطية الأمور وعدم كشف المستور، قام جهاز الدعاية السياسية الضخم، الذي أوكلت إليه إدارة المعارك في عام الهزيمة الكبرى، بتبرير كل شيء.

ففي برنامج تليفزيوني فضائي، سأل كاتب قصة الفيلم المذكور ومقدم البرنامج صاحب الصوت الجماهيري، عن مصداقية الإعلام عن بيانات الحرب يوم 5 يونيو. رد مذيع محطة «أمجاد يا عرب أمجاد»، بان الموضوع برمته كان Bluff حسب التوجيه السياسي والإعلامي الذي املته السلطات الرئاسية.

بالــBluff أيضا، قامت القيامة عند بناء السد. صوروه على انه معجزة. التعتيم على تاريخ مصر السابق حوَّل السد إلى أسطورة. القناطر الخيرية وشق الرياحات وبناء الترسانة البحرية والمطبعة الأميرية، وكل مشاريع محمد علي تمت بقوة عمل من تعداد سكاني أقل من الثلاثة ملايين، وبأمية أبجدية تتجاوز الــ99 %، وبتكنولوجيا زمانها الضعيفة. خزان اسوان الحالي، اقيم في عام 1918، وبدون عوائد القناة، وفي ظل احتلال بريطاني. أما السد العالي، مشروع يوليو الزاعق، فقد أقامته تكنولوجيا الاتحاد السوفياتي وتم بقوة عمل، تحت إمرة مقاول قطاع خاص من سكان مصر، وبتعداد يربو على الثلاثين مليونا، وفي ظل استقلال وامتلاك لعوائد القناة، ومساعدة الاتحاد السوفياتي في معظمه. المقارنة البسيطة ليست في صالح سد ناصر.

الإصلاح الزراعي كان مشروع حزب الوفد. الاستقلال وجلاء الإنجليز تم باليوم والساعة طبقا لمعاهدة 1936، زمن الملك الفاسد ! لمساتها الاخيرة تمت في غرفة نوم السفير الامريكي كافري، حسب «شهادة على العصر» لرئيس وزراء ليبيا الاسبق. بل أن تأميم القناة يشوبه الكثير. كتب عنها أخيرا في جريدة قومية تحت عنوان: «حول نظرية المؤامرة والمتآمرين». «عندما يكون الجاسوس من الدوائر الضيقة لصانعي القرار». «نشرت جريدة «الاوبزرفر» البريطانية خريف عام 1958، أربع حلقات عن حرب السويس، احداها كانت حول نقاش في الكونغرس الامريكي، اذ كان بعض أعضائه يتساءلون عن مبررات وجود دائرة المخابرات المركزية C.I.A بميزانيتها الضخمة، طالما ان حدثا مثل تأميم القناة لم تعلم به. كان ألان دالاس (شقيق جون فوستر دالاس) رئيسا لهذه الدائرة آنذاك. وعند استجوابه قال لأسباب أمنية، هناك الكثير من التفاصيل التي لا أستطيع التحدث عنها، ولكنني أؤكد للأعضاء بأننا كنا على علم بكل شيء، إذ أن رجلنا في القاهرة، منذ الأربعينات، موجود ضمن الحلقة الضيقة لصانعي القرار والمطلعين على مجريات الأحداث!» هذا الخبر قرأه الكثيرون غيري ممن يتعاطون الثقافة والسياسة.

رحم الله عبد الناصر.. كان مخلصا في الإضرار والضراء.

* كاتب مصري ـ القاهرة