رجعيون جدد يغزون العالم العربي

TT

التحول من اليسار إلى اليمين أو العكس ليس غريبا في السياسة، فمن يطلق عليهم في الولايات المتحدة صفة الصقور أو المحافظين الجدد، كان معظمهم ليبراليين ديمقراطيين، ولولا جذورهم الليبرالية المعادية للديكتاتوريات المتسلطة، لما تم التخلص من أعتى ديكتاتور عربي في عصرنا هذا وهو المأسوف عليه لدى بعض العرب صدام حسين التكريتي.

وفي العالم العربي أيضا، ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يتخبط اليساريون العرب ويحتارون في تلمسهم للطريق الجديد. ففي الوقت الذي استقر فيه المقام بعدد قليل منهم بركب قطار زملائهم من يساريي الغرب، فإن الغالبية ترنحت وعادت لركب قطار التطرف الديني المخيف. وهذه الغالبية يمثلها من يطلق عليهم الآن الرجعيون الجدد.

التحالف مع التطرف ومع الأحزاب الدينية، بشكل عام، ظاهرة غير صحية، وقد تودي بأصحابها إلى الموت، وأقوى مثال على ذلك ما جرى في اليمن الذي فقد واحدا من خيرة رجاله، هو القيادي الاشتراكي البارز جار الله عمر، الذي كان يحاول أن يلم شتات اليسار ويلحقهم باليمين المتنور، أو ما كان يعتقد جار الله أنه يمين متنور ، وكان يطمح إلى تشكيل معارضة حقيقية لا مفتعلة في البلاد بالتآزر مع أكبر حزب ديني في اليمن.

وللأسف الشديد، فقد اغتيل جار الله عمر في مؤتمر ذلك الحزب الديني أي تجمع الإصلاح، وبغض النظر عن مسألة من يقف وراء جريمة الاغتيال، فإن الشيء الوحيد الذي لا يمكن إنكاره، هو أن منفذ الجريمة الذي تم إلقاء القبض عليه واعترف بجريمته، هو عنصر من المتطرفين وتلميذ في مدرسة التطرف الديني البغيض، وهنا تكمن الخطورة.

في تقديري الشخصي أن ما كان يجمع بين جار الله عمر ومعه كل اليساريين والقوميين العرب بالليبراليين الغربيين في أميركا وأوروبا، أكبر بكثير مما يجمع سياسيا وفكريا بينهم وبين جماعات التطرف العربية، أو الأحزاب القائمة على أساس ديني، حتى وإن ادعت الحداثة.

لم يكن فقدان جار الله عمر خسارة لليمن وحده بل للعالم العربي، ويجب أن يكون تغييبه درسا ينبغي استيعابه، وهو أن اليمين المتطرف، سواء كان في الشرق أو في الغرب، لا يقبل التعايش مع نقيضه مطلقا. ولن يرضى عنا المتطرفون حتى لو اتبعنا ملتهم.

القوميون والاشتراكيون العرب نجدهم متمسكين بشكليات فارغة ويتناسون المضمون والجوهر في التعامل مع المعطيات الجديدة. فهم يتمسكون بمعاداة الغرب والغربيين وشتم أميركا على وجه التحديد ليل نهار، كما كانوا يفعلون في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وينسون أو يتناسون القواسم المشتركة التي يفترض أنها تربطهم بالحضارة والمدنية والحداثة والتقدم.

وقد ذهبوا في الآونة الأخيرة بعيدا وتحالفوا مع الرجعية والتخلف والتطرف، ومع أصحاب أيديولوجية الانتحار بحجة واهية هي وجود عدو مشترك، ويقصدون بالطبع أميركا.

وفي الجهة المقابلة، نجد أن الأميركيين، الذين كنا نعيب عليهم تحالفاتهم في المنطقة، استيقظوا من غفلتهم، وأدركوا، بعد 11 سبتمبر، أن التطرف والتخلف لا يفرقان بين عربي أو أميركي، ولا بين هندي أو برازيلي، بل ان خطرهما محدق بالجميع واجتثاثه واجب على كل شعوب الأرض.

لم يكن استهداف الإرهابيين الجامعات المصرية أو قتلهم السياح في الأقصر أو اغتيال قادة المعارضة اليسارية في اليمن، أو احتلال معتوه الحرم المكي الشريف بحفنة من غلاة التطرف، تشكل، رغم خطورتها، هما كبيرا لساسة أميركا، إلى أن امتد الخطر ووصل إلى السفارات الأميركية والمصالح الأميركية في أكثر من بلد، ثم طالت يده ووصلت إلى الأراضي الأميركية ذاتها. وفي ذروة توسع الإرهاب لم يستهدف الأراضي الأميركية البعيدة بل استهدف أهم مدينتين تمثلان القلب والرئة للولايات المتحدة، هما نيويورك وواشنطن، ولم يكن الهدف مكانا عشوائيا بل أهم مركز اقتصادي للبلاد وأهم رمز عسكري لها، أي مركز التجارة العالمي ووزارة الدفاع الأميركية، البنتاغون.

الشيء الجميل في الأميركيين أنهم يتعلمون من التجارب، ويغيرون سياستهم وفقا للمعطيات والمستجدات، ومن حسن حظ الشعوب العربية أن المحافظين الجدد، الليبراليين سابقا، يهيمنون حاليا على مفاصل السياسة الأميركية، ويبدو أنهم وجدوا أن سياسات أميركا السابقة ساهمت في تقوية المتطرفين وتقويض القوى النيرة في العالم العربي، فبدأوا بتغيير السياسات القديمة، غير أن الأحزاب التقدمية في العالم العربي لم تفهم الرسالة، وبقيت تفتح في جروح الماضي التي يفترض أنها التأمت.

وبقيت هذه الأحزاب للأسف تتعامل بحمق مع التطورات دون أن تجني ثمارها.

وقد ظهر في السنين الماضية ما يسمى بالتيار الإسلاموي القومي، وضلعاه يتربصان ببعضهما أكبر من تربصهما بالغير، ولا يجمع بينهما سوى كراهية أميركا وما له علاقة بها. ولو ألقى القوميون أو الاشتراكيون أو غيرهم نظرة على ما حولهم، لوجدوا أن الخطر لن يأتي من أميركا ولا من المحافظين الجدد، وإنما بالقرب منهم، أي من التنظيمات والأجنحة السياسية للإرهاب، التي يحاولون التقرب منها والتحالف معها لمواجهة الخطر المزعوم.

* صحافي من اليمن