لماذا يتأخر تشكيل الوزارة الفلسطينية؟

TT

تأخر أحمد قريع (أبو العلاء) كثيرا في تشكيل الوزارة الفلسطينية الثانية بعد وزارة محمود عباس (أبو مازن) الأولى. ولهذا التأخر أسباب كثيرة، أعلن بعضها أبو علاء بنفسه حين تحدث عن ضمانات يطلبها من الولايات المتحدة ومن إسرائيل كي يؤمن النجاح لوزارته. ثم انتقل التأخر نحو ناحية أخرى تتعلق بشكل الوزارة التي يتطلع إلى تشكيلها. لقد تحدث في البداية عن تشكيل وزارة طوارئ تضم عددا محدودا من الوزراء، ثم تراجع عن الفكرة ساعيا إلى تكوين وزارة موسعة، ثم تخلى عن الفكرة داعيا إلى تشكيل وزارة مصغرة. فلماذا حدث كل هذا؟ هل هو تعبير عن حالة اضطراب، أو تعبير عن مشاكل وخلافات داخلية؟ ربما تكون الأمور بدأت بحالات اضطراب. وربما تكون برزت أثناء المشاورات مشاكل وخلافات داخلية. ولكن الأمور تطورت وسارت بعد ذلك في نهجها الصحيح، وهو النهج الذي يمكن أن نطلق عليه: بلورة (النظام السياسي الفلسطيني).

إن النظام السياسي الفلسطيني غير موجود. ربما لأن أحدا لم يفكر فيه جديا من قبل. وربما لأن اتفاق اوسلو (المرحلي) كان يدفع موضوعيا باتجاه تأجيل البحث بالأمر كله إلى أن يصل الفلسطينيون إلى الحل الدائم الذي هو هدف اتفاق اوسلو. وربما لأن اتفاق اوسلو كان يحجب عن الفلسطينيين حق التشريع ويربط صدور أي تشريع جديد بموافقة إسرائيل، ففضل المسؤول الفلسطيني أن يبتعد عن هذه التجربة المرة، فتجنب مرة ومرات إصدار (الدستور الفلسطيني)، وجرى الاكتفاء بما أطلق عليه (القانون الأساسي). وتبلورت على أرض الواقع سلطة فلسطينية تكرر تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، حيث كانت المركزية القيادية حاجة ضرورية في إدارة التعامل مع واقع فلسطيني مشتت، وهو ما أطلق عليه الكثيرون وصف (فردية الرئيس ياسر عرفات).

ولنتذكر هنا أن اتفاق اوسلو ينص على إنشاء (مجلس السلطة الفلسطينية)، الذي يتكون من عشرين شخصا لا يملكون أية سلطة سيادية. ويحمل عضو السلطة الفلسطينية حسب اتفاق اوسلو لقب (عضو مجلس السلطة)، اي أنه لا يحمل لقب وزير، باعتبار أن وصف الوزير هو وصف سيادي لحكومة رسمية. وقد سعى الرئيس ياسر عرفات منذ الأيام الأولى لبدء تنفيذ اتفاق اوسلو إلى تجاوز هذا الوضع، وكان أبرز ما فعله في هذا الاتجاه هو الدعوة إلى توسيع (مجلس السلطة الفلسطينية)، من عشرين إلى ثمانين شخصا.ثم الإصرار على إطلاق إسم (المجلس التشريعي الفلسطيني) على هذه الهيئة التي تم انتخابها. وقد تم ذلك بمفاوضات واتصالات بعضها سري وبعضها نصف علني، جرت بين عرفات وبين رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين، الذي تفهم الاعتبارات التي تدعو عرفات إلى هذا التوجه ووافق عليها، وسجل بذلك أول مخالفة (تجاوز) لبنود اتفاق اوسلو. أما إسم المجلس التشريعي فقد تم فرضه كأمر واقع، ولم تعترف إسرائيل رسميا بهذه التسمية حتى الآن. وحين شكل عرفات الوزارة الفلسطينية الأولى (وهي مجلس السلطة حسب اتفاق اوسلو) أطلق عليها لقب الوزارة، وحمل أعضاؤها لقب الوزراء.

أثارت الصيغة التي قام الحكم الفلسطيني على اساسها إشكالات داخلية كثيرة. ربما كان ابرزها خلاف الصلاحيات بين الرئيس الفلسطيني (المنتخب) والمجلس التشريعي (المنتخب). وربما كان أبرزها أيضا التعدد في الصلاحيات المالية، بين وزير المالية محمد زهدي النشاشيبي وبين هيئة الاستثمار التي كانت تابعة للرئاسة. وجرى لغط كثير حول ذلك، أطلق عليه أحيانا لقب الفساد، وأطلق عليه أحيانا لقب غياب الشفافية.

تجذرت هذه الصورة على مدى سنوات، وتعامل معها الكثيرون كأمر واقع، إلى أن طرأت تغيرات دولية كثيرة، قادت إلى بروز الموقف الأميركي الداعي إلى تغيير القيادة الفلسطينية، وبروز التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي الجديد (بوش ــ شارون) الذي تعامل مع النضال الفلسطيني ضد الاحتلال على أنه إرهاب. واطلت من قلب هذا الصراع دعوة لإنشاء منصب مستقل لـ(رئيس وزراء)، وهو مرة أخرى منصب يناقض اتفاقات اوسلو. وبالنسبة للفلسطينيين فإن إنشاء منصب رئيس وزراء هو مطلب وطني سيادي يسعون إليه، أما بالنسبة للأميركيين والإسرائيليين فهو وسيلة لإقصاء ياسر عرفات وايجاد قيادة فلسطينية بديلة. ولقد جرى إقرار المنصب في ظل هذا التجاذب الحاد بين التوجهين، وحين اختير ابو مازن لهذا المنصب عانى كثيرا من حالة التجاذب التي وجد نفسه بداخلها، وكانت سببا أساسيا من أسباب فشل تجربته. ولكن حكومة ابو مازن أدت موضوعيا إلى طرح موضوع (النظام السياسي الفلسطيني) على بساط البحث: ما هي العلاقة بين مؤسسة الرئاسة القديمة ومؤسسة رئاسة الوزراء الحديثة؟ ما هي العلاقة بين حركة فتح كحزب حاكم وبين مؤسسة رئاسة الوزراء؟ من يتخذ القرار السياسي الاستراتيجي في المفاوضات؟ من يتخذ القرار الأمني الاستراتيجي في التعامل مع الأوضاع الداخلية؟ وما هي الضوابط التي تحكم العلاقة بين السلطة والمعارضة؟ كل هذه الأسئلة برزت من خلال التجربة، ورأى فيها ابو مازن تحديا لسلطته، واحيانا تخريبا متعمدا لها، وقاده ذلك إلى الاستقالة.

ولكن حين تم تكليف ابو علاء بتشكيل الوزارة الثانية، اختار أن يتحاور بعمق مع الرئاسة الفلسطينية، واختار أن يتحاور بعمق مع اللجنة المركزية لحركة فتح، وتبلورت من خلال هذا الحوار قواعد (النظام السياسي الفلسطيني) حتى لا تتكرر تجربة التجاذب التي رافقت حكومة ابو مازن. وطالت لهذا السبب مشاوراته حول تشكيل الحكومة، وتعددت صيغ تشكيلها. ومن المحتمل أن يتم الإعلان عن حكومة أبو علاء حين تتبلور الإجابات حول القضايا المطروحة. وإذا تم ذلك فعلا تكون وزارة ابو علاء مرشحة للنجاح، لا لأن ابو علاء أكفأ من ابو مازن، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، بل لأن وزارة ابو مازن برزت في ظل أسئلة أساسية ذات أجوبة غائبة، بينما تبرز حكومة ابو علاء في ظل توافق قيادي على تلك الأسئلة.

هذا الحوار الجوهري الذي اشرنا إليه، والذي قد يشكل نقلة نوعية إلى الأمام، ينطوي على نقص جوهري (خطأ) فادح، فهو يجري داخل حركة فتح وحدها، وهو يجري بين مسؤولين في المواقع الفلسطينية التي يتولاها قادة بارزون من حركة فتح. ولكن حركة فتح، وبالرغم من مكانتها القيادية، تتعايش على أرض الواقع مع قوى تنظيمية فلسطينية أخرى. كما أن حركة فتح لم تعد فصيلا فدائيا مقاتلا بل اصبحت سلطة تتعامل مع مجتمع، وتوجد داخل هذا المجتمع قوى مدنية فاعلة، ومن الخطأ أن تتواصل عملية بلورة النظام السياسي الفلسطيني بعيدا عن هؤلاء كلهم، وتقتضي المصلحة أن يتم توسيع إطار البحث ليشمل هؤلاء كلهم، مع الاستعداد لتقبل التغييرات التي قد يقترحونها.

ويزيد من حساسية هذه النقطة، أن الوضع الفلسطيني يعيش حالة مواجهة عنيفة مع الاحتلال الإسرائيلي تستدعي لحمة داخلية متينة، كما أن العديد من القوى الفلسطينية الفاعلة (الجبهة الديمقراطية، الجبهة الشعبية،حزب الشعب، المبادرة الوطنية، وهيئات أخرى) تدعو علنا إلى ضرورة التحاور من أجل صياغة برنامج نضالي متفق عليه، وتدعو علنا إلى تشكيل هيئة قيادية عليا لبحث الأمور الاستراتيجية والتوافق حولها، ومن الخطا تجاهل هذه الدعوات، او العمل باسلوب فرض صيغة قيادية عليها كأمر واقع.

من الممكن توسيع الحوار. ومن الممكن تحقيق إجماع حول أسس ما يتفق عليه، وآنئذ تنشأ الخلافات الفلسطينية بشكل صحي، ويتم التعامل معها بشكل صحي.