الرأي العام يقلص زمن بوش

TT

اشتكى ونستون تشرشل يوماً من أن الديمقراطية هي أسوأ نظام يمكن الأخذ به ما لم تطبق على الجميع. واليوم فإن مساوئ الديمقراطية وعدم ملاءمتها، وليس فضائلها المعروفة، لا بد تدور في عقل الرئيس بوش في هذا الوقت. فالوضع في العراق والولايات المتحدة والحقائق السياسية فيهما، تعلمه حجم الصعوبات التي قد يواجهها أي رئيس أميركي يحاول زرع المؤسسات الأميركية في أرض أجنبية، ويسعى في الوقت نفسه، لشحذ التأييد الداخلي لسياساته الخارجية، واقناعه بتحمل النفقات المادية والمعنوية.

والواضح أمام أي مهتم بتحول انتقالي في العراق تحت أي مسمى دستوري ديمقراطي، صعوبة الأمر ان لم يكن استحالته. فالدولة التي اصطنعت مقسمة بين ديانات لا جسور بينها، واختلافات عرقية قمعت على أيدي ديكتاتور مستبد لا يبدو أنها تربة خصبة للوصول إلى حكومة ممثلة للجميع. فالعراق ليس ألمانيا أو اليابان التي تولدت من تجربتها الخاصة ديمقراطيات قوية، قامت على أنقاض التدمير الذي أصاب كلتيهما عقب الحرب العالمية الثانية.

وربما تستطيع الولايات المتحدة اقامة ما نأمله في العراق اذا أتيح لها الوقت والمصادر الكافية. وربما تستطيع قياس هذا بتجربتنا في الفلبين، ولكن الأمر احتاج منا 48 عاماً من الاحتلال لذلك البلد الصغير المرن، حتى رحيلنا عام 1946 لتستطيع المؤسسات الحرة تثبيت أرضية لها هناك. ولن ننسى الصعوبات اللانهائية التي واجهتنا لارساء حكومات ديمقراطية في دول قريبة منا، مثل جمهورية الدومينيكان وهايتي ونيكاراغوا. وعندما وعد وودرو ويلسون أحد الدبلوماسيين البريطانيين بأننا سنعلم جمهوريات أميركا الجنوبية كيف ينتخبون الرجل الأصلح، كان يقطع بذلك وعداً يستطيع الوفاء به، وكان رفضنا للتخلي عن السلطة لمسؤولين محليين جزءاً من المشكلة، فثقتنا قليلة في أن المسؤولين اللاتينيين الذين نتعامل معهم أو ندعمهم يعيرون احتراماً كافياً للديمقراطية، ونفس المعضلة تواجهنا الآن في العراق.

الأسبوع الماضي قال شيراك ان «انتقال السلطة» هو لب القضية، ولكن كيف سننقل السلطة الى زعماء نتشكك في ولائهم للحكومة الدستورية. والمشكلة أننا بدون نقل السلطة لن نحصل على الحكم ذي الطابع الغربي الذي نصر عليه وليس لدينا أية اجابات جاهزة في أميركا اللاتينية ولا في العراق.

ومن الحماقة الظن بأن العراقيين أو الرأي العام الأميركي سيقبل بفترة طويلة من الاحتلال تمتد لسنوات، فلم يمر سوى ستة أشهر على هزيمة القوات الأميركية والبريطانية لجيوش صدام حسين المغلوبة على أمرها، وبدأ العراقيون يتذمرون من الاحتلال، ويطالبون بتحديد موعد لنيلهم الحكم الذاتي.

والرأي العام الأميركي يظهر قلة صبره على ادارة بوش التي تطالب بالمزيد من الوقت والمال لتعيد تشكيل العراق..

وقوبل طلب الرئيس بـ87 مليار دولار زيادة في نفقات الاحتلال بنقد لاذع من ملايين الأميركيين، ومن الممكن تحمل مشهد أكفان الجنود المغطاة بالعلم الأميركي، لكن الزيادة في مخصصات الاحتلال بدون داع أو بطولات محققة، سيجعل الرأي العام يعيد النظر في شأن الحرب برمتها.

ففي ليلة واحدة انخفضت شعبية بوش بنسبة 50%، وهي النسبة الأقل منذ توليه الرئاسة. وهناك 47% كانوا غير راضين عن طريقة أدائه. كما أوضح استطلاع الرأي الذي أجرته الـ«سي. إن. إن»، و«يو. أس توداي» الأسبوع الماضي أن أكثر من نصف المشاركين في استطلاع الرأي أكدوا أنهم غير موافقين على طريقة تعامل بوش مع القضايا التي يعتبرونها الأهم. كذلك انخفضت نسبة المؤيدين لحربه على العراق إلى 50%، و48% منهم رأوا أن الحرب كانت فكرة حمقاء.

أحد أسباب التغيير الذي حدث للاتجاه العام أساسه الفشل في العثور على أسلحة دمار شامل في العراق، أو تقديم أدلة قوية تربط بين أسامة بن لادن وصدام حسين، وهي الأسباب الرئيسية المعلنة لشن الحرب. وكذلك فإن الدم المسفوك في العراق والعراقيل من ضمن الأسباب القوية التي تجعل غالبية الأميركيين يعتقدون أن فترة احتلال أطول في العراق هي فكرة سيئة. ورغم أن الذين شاركوا في الاستطلاع تحاشوا استخدام كلمة «مستنقع» لما لها من صدى يتعلق بحرب فيتنام، إلا أن استطلاعا آخر أجرته «الواشنطن بوست» مع شبكة ايه بي سي نيوز، في الفترة من 10 ـ 13 سبتمبر، أظهر أن 85% من الأميركيين يتخوفون من تورط الولايات المتحدة في عملية حفظ سلام طويلة ومكلفة في العراق، ونسبة هؤلاء «المتخوفين» تضاعفت عما كانت عليه في ابريل الماضي.

وادارة بوش حذرت بوضوح من استراتيجية اقطع واهرب. فالتسرع في ترك العراق قبل اكتمال قوة مجلس عراقي حاكم، أو قبل تركها للأم المتحدة، أمر يحذر منه المسؤولون الأميركيون، لأنه قد يتسبب في الفوضى ويقضي على الآمال بعراق ديمقراطي وشرق أوسط أكثر استقراراً، وحذروا أيضاً من أننا اذا لم نواجه الارهاب في العراق فسنجعل من أنفسنا هدفاً سهلاً له وسيهاجمنا في عقر دارنا.

وباستقراء خطاب بوش أمام الأمم المتحدة الأسبوع الماضي، والذي كان موجهاً للداخل أكثر منه للجمهور العالمي، فإن البيت الأبيض يتفهم ان لديه مشكلة في الحفاظ على التأييد الداخلي لاحتلال يواجه خسائر بشرية يومية، ويبدو غير قادر على اعادة الكهرباء والاستقرار الاقتصادي الى العراق. ومشكلة مصداقية ادارة بوش اليوم تبرز على ثلاثة أوجه; أولاً أنها لا تستطيع اقناع غالبية الأميركيين بأن الأمن القومي يتطلب خوض الولايات المتحدة للحرب، وثانياً مسألة امتلاكها لاستراتيجية منطقية للخروج، وخطة لارساء السلام والديمقراطية في العراق خلال فترة معقولة من الوقت، وثالثاً تحتاج لكي تثبت وتؤكد أن الحرب على العراق واحتلالها ليس فيتنام بمستوى بطيء. فأي شخص لديه القليل من المعلومات عن الفشل الأميركي في فيتنام، يستطيع المجادلة بأن العراق ليس أكثر من المعركة نفسها. وان كانت الخسائر البشرية في العراق، مقارنة بفيتنام، التي فقدنا فيها أكثر من 58 ألف روح بشرية أميركية، تعد قليلة جداً. ولكن لا أحد يقلل من أهمية 300 جندي أميركي راحوا ضحايا في العراق، حتى لو عدت قليلة مقارنة بعشرات الآلاف من الجنود الذين قتلوا وأصيبوا على مدى عشر سنوات من العمليات الحربية في الستينات والسبعينات. وما يهمنا الآن، هو التصارع لتحقيق أهدافنا في العراق، والتخلص من ذكريات فيتنام. فقد احتاج الأمر لسنوات عديدة حتى تكونت لدى غالبية الأميركيين معارضة لاستمرار الالتزامات العسكرية الأميركية نحو سايغون. وفي الحقيقة لم يحدث هذا إلا بعد هجمات التبت الشيوعيين عام 1968 ، فبعدها بدأ معظم الأميركيين يتشككون في تأكيد ليندون جونسون بالنور الذي يبزغ في نهاية النفق. أما اليوم، وبعد ستة أشهر فقط من الحرب، فقد برزت الشكوك في تأكيدات الادارة التي تعيد ذكريات تطمينات جونسون البلاغية غير المقنعة عن فيتنام.

وتاريخ المعارضة الشعبية لماضي الحروب، التي تتكبد أميركا فيها الدولارات والأرواح، لا بد أن يقنع ادارة بوش ان أيامها معدودة، ما لم تجد حلاً لهذا التحدي.

فرانكلين روزفلت مثلاً، ظل محجماً عن دخول الحرب العالمية الثانية حتى وقعت بيرل هاربور، وتأكد أن هناك اجماعاً راسخاً على دخول حرب عالمية كلفت أميركا أكثر من 400 ألف جندي. وقامت سياسة روزفلت قبل ديسمبر 1941، على أساس ايمانه بعدم قدرته على الزج بالبلاد في حرب بدون التزام أكيد من الرأي العام بالاستعداد للتضحية، وعلى الرغم من أنه كان قادراً على نيل تصديق الكونغرس على قرار الحرب، إلا أنه أخبر السفير البريطاني في نوفمبر 1941 ، بأنه لا يعتقد أن هناك أهمية لرؤية بلاده تخوض صراعاً طويلاً صعباً، وكذلك كانت ورطة كوريا (1951 ـ 1952) سبباً في تدمير التأييد الشعبي لهاري ترومان، وتركه البيت الأبيض في يناير 1953 بنسبة تأييد لا تتعدى 31 في المائة.

وكان على ليندون جونسون أن يحجم عن ترشيح نفسه لفترة رئاسية ثانية عام 1968، بعدما رأى الرأي العام أنه ضلله فيما قاله عن الحاجة والقدرة على خوض حرب ضد الشيوعية العاصية في فيتنام. ولكن ما الذي يجب فعله؟ بالتأكيد ليس هناك أحد في الولايات المتحدة يفكر في انسحاب فردي من فوضى العراق، فهي لن تزيد من عدم الاستقرار في الشرق الأوسط فقط، ولكنها أيضاً تشكك في زعامة أميركا وقدرتها على حل المشاكل الدولية من الارهاب الى الفقر أمام المجتمع الدولي، والحل السياسي الوحيد المقبول أمام بوش داخلياً وخارجياً، هو قبول طلبات الأمم المتحدة بالاضطلاع بدور في ادارة الصراع في العراق. فسياسات الادارة الاحادية كانت خطأ جسيماً، فدخول حرب دون تحالف حقيقي من دول مستعدة للتضحية بالأرواح، والتكفل بنفقات اعادة البناء فيما بعد الحرب، كان خطأ فادحاً، ومن الممكن تقويمه بالدبلوماسية البارعة. وهذا الحل قد يعطي للادارة الحالية نقطة لصالحه، لكن من الصعب الوثوق بأنه سيرفع التحدي. ان لم يكن الامر كذلك، فسوف ينظر إليه من الخارج بعد 2004، كما لو ان حكومة اميركية جديدة تعمل لتحريك الوضع في العراق وتحسين سمعة أميركا التي تأثرت خارجياً بسبب حرب غير حكيمة وغير ناجحة استهدفت اعادة تشكيل الشرق الأوسط.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»